الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }

استئناف ابتدائي للتنويه بأهل غزوة تبوك وهم جيش العُسْرة، ليكون توطئة وتمهيداً لذكر التوبة على الذين تخلفوا عن الغزوة وكانوا صادقين في أيمانهم، وإنْبَاءِ الذين أضمروا الكفر نفاقاً بأنهم لا يتوب الله عليهم ولا يستغفر لهم رسوله صلى الله عليه وسلم والمناسبة ما تقدم من ذكر أحوال المنافقين الذين تسلسل الكلام عليهم ابتداءً من قولهيا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } التوبة 38 الآيات، وما تولد على ذلك من ذكر مختلف أحوال المخلفين عن الجهاد واعتلالهم وما عقب ذلك من بناء مسجد الضرار. وافتتحت الجملة بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر، المتضمنة على أنه لما كان فاتحة التحريض على الجهاد بصيغة الاستفهام الإنكاري وتمثيلهم بحال من يُستنهض لعمل فيتثاقل إلى الأرض في قوله تعالىمالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } التوبة 38 ناسب أن ينزل المؤمنون منزلة المتردد الطالب في كون جزاء الجهاد استحقاق الجنة. وجيء بالمسند جملة فعلية لإفادتها معنى المضي إشارة إلى أن ذلك أمر قد استقر من قبل، كما سيأتي في قوله { وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن } ، وأنهم كالذين نسوه أو تناسوه حين لم يخفُوا إلى النفير الذي استنفروه إشارة إلى أن الوعد بذلك قديم متكرر معروف في الكتب السماوية. والاشتراء مستعار للوعد بالجزاء عن الجهاد، كما دل عليه قوله { وعداً عليه حقاً } بمشابهة الوعدِ الاشتراءَ في أنه إعطاء شيء مقابل بذل من الجانب الآخر. ولما كان شأن الباء أن تدخل على الثمن في صِيغ الاشتراء أدخلت هنا في { بأن لهم الجنة } لمشابهة هذا الوعد الثمنَ. وليس في هذا التركيب تمثيل إذ ليس ثمة هيئة مشبهة وأخرى مشبه بها. والمراد بالمؤمنين في الأظهر أن يكون مؤمني هذه الأمة. وهو المناسب لقوله بعد { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به }. ويكون معنى قوله { وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل } ما جاء في التوراة والإنجيل من وصف أصحاب الرسول الذي يختِم الرسالة. وهو ما أشار إليه قوله تعالىوالذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } الفتح 29 إلى قولهذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } الفتح 29 إلى قولهليغيظ بهم الكفار } الفتح 29. ويجوز أن يكون جميع المؤمنين بالرسل ـــ عليهم الصلاة والسلام ـــ وهو أنسب لقوله { في التوراة والإنجيل } ، وحينئذٍ فالمراد الذين أمروا منهم بالجهاد ومن أمروا بالصبر على اتباع الدين من أتباع دين المسيحية على وجهها الحق فإنهم صبروا على القتل والتعذيب. فإطلاق المقاتلة في سبيل الله على صبرهم على القتل ونحوه مجاز، وبذلك يكون فعل { يقاتلون } مستعملاً في حقيقته ومجازه. واللام في { لهم الجنة } للملك والاستحْقاق.

السابقالتالي
2