الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ } * { وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ } * { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ } * { وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } * { وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً } * { وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً }

{ فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ * كَلاَّ }. دلت الفاء على أن الكلام الواقع بعدها متصل بما قبلها ومتفرع عليه لا محالة. ودلت أمّا على معنى مهما يكن من شيء، وذلك أصل معناها ومقتضى استعمالِها، فقوي بها ارتباط جوابها بما قبلها وقبْلَ الفاء المتصلة بها، فَلاح ذلك برقاً وامضاً، وانجلى بلمعه ما كان غامضاً، إذ كان تفريع ما بعد هذه الفاء على ما قبلها خفياً، فلنبينه بياناً جليّاً، ذلك أن الكلام السابق اشتمل على وصف ما كانت تتمتع به الأمم الممثَّل بها مما أنعم الله عليها به من النعم، وهم لاهون عن دعوة رُسُل الله، ومعرضون عن طلب مرضاة ربهم، مقتحمون المناكر التي نُهوا عنها، بطرون بالنعمة، معجَبون بعظمتهم فعقب ذكر ما كانوا عليه وما جازاهم الله به عليه من عذاب في الدنيا، باستخلاص العِبرة وهو تذكير المشركين بأن حالهم مماثل لحال أولئك تَرفاً وطغياناً وبطراً، وتنبيهُهم على خطاهم إذْ كانت لهم من حال الترف والنعمة شبهةٌ توهَّموا بها أن الله جعلهم محل كرامة، فحسبوا أن إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بالعذاب ليس بصدق لأنه يخالف ما هو واقع لهم من النعمة، فتوهموا أنّ فعل الله بهم أدلّ على كرامتهم عنده مما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أمرهم بخلاف ما هم عليه، ونفوا أن يَكون بعد هذا العالم عالم آخر يضاده، وقصروا عطاء الله على ما عليه عباده في هذه الحياة الدنيا، فكان هذا الوهَم مُسوِّلاً لهم التذكيب بما أنذروا به من وعيد، وبما يسر المؤمنون من ثواب في الآخرة، فحصروا جزاء الخير في الثروة والنعمة وقصروا جزاء السوء على الخصاصة وقَتْر الرزق. وقد تكرر في القرآن التعرض لإِبطال ذلك كقولهأيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون } المؤمنون 55، 56. وقد تضمن هذا الوهَم أصولاً انبنى عليها، وهي إنكار الجزاء في الآخرة، وإنكار الحياة الثانية، وتوهم دوام الأحوال. ففاء التفريع مرتبطة بجملةإن ربك لبالمرصاد } الفجر 14 بما فيها من العموم الذي اقتضاه كونها تذييلاً. والمعنى هذا شأن ربك الجاري على وفق علمه وحكمته. فأما الإنسان الكافر فيتوهم خلاف ذلك إذ يحسب أن ما يناله من نعمة وسَعَة في الدنيا تكريماً من الله له، وما يناله من ضيق عيش إهانَةً أهانَهُ الله بها. وهذا التوهم يستلزم ظنهم أفعال الله تعالى جارية على غير حكمة قال تعالىولئن أذقناه رحمةً منا من بعد ضراء مسَّتْه ليقولن هذا لي وما أظُنُّ الساعة قائمة ولئن رُجِعْتُ إلى ربي إنَّ لي عنده لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذابٍ غليظ }

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8