الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } * { خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } * { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ }

الفاء لتفريع الأمر بالنظر في الخلقة الأولى، على ما أريد من قولهإن كل نفس لما عليها حافظ } الطارق 4 من لوازم معناه، وهو إثبات البعث الذي أنكروه على طريقة الكناية التلويحية الرمزية كما تقدم آنفاً، فالتقدير فإن رأيتم البعثَ محالاً فلينظر الإِنسان مِمّ خُلق ليعلَمَ أن الخلق الثاني ليس بأبعد من الخلق الأول. فهذه الفاء مفيدة مفاد فاء الفصيحة. والنظر نظر العقل، وهو التفكر المؤدي إلى علم شيء بالاستدلال فالمأمور به نظر المُنكر للبعث في أدلة إثباته كما يقتضيه التفريع علىإن كل نفس لما عليها حافظ } الطارق 4. ومِنْ من قوله { مم خُلق } ابتدائية متعلقة بــــ { خُلق }. والمعنى فليتفكر الإِنسان في جواب مَا شيء خلق منه؟ فقدّم المتعلِّق على عامله تبعاً لتقديم ما اتصلت به من من اسم الاستفهام. وما استفهامية عَلّقت فعل النَّظر العقلي عن العمل. والاستفهام مستعمل في الإِيقاظ والتنبيه إلى ما يجب علمه كقوله تعالىمن أي شيء خلقه } عبس 18 فالاستفهام هنا مجاز مرسل مركب. وحذف ألف ما الاستفهامية على طريقة وقوعها مجرورة. ولكون الاستفهام غير حقيقي أجاب عنه المتكلم بالاستفهام على طريقة قولهعم يتساءلون عن النبأ العظيم } النبأ 1، 2. و { الإِنسان } مراد به خصوص منكر البعث كما علمت آنفاً من مقتضى التفريع في قوله { فلينظر } إلخ. ومعنى { دافق } خارج بقوة وسرعة والأشهر أنه يقال على نطفة الرجل. وصيغة { دافق } اسم فاعل من دفق القاصر، وهو قول فريق من اللغويين. وقال الجمهور لا يستعمل دفَق قاصراً. وجعلوا دافقاً بمعنى اسم المفعول وجعلوا ذلك من النادر. وعن الفراء أهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلاً، إذا كان في طريقة النعت. وسيبويه جعله من صيغ النسب كقولهم لاَبن وتَامِر، ففُسر دافق بذي دَفْق. والأحسن أن يكون اسم فاعل ويَكون دفق مطاوع دفقه كما جعل العجاج جَبَر بمعنى انْجبر في قوله
قد جبر الدينَ الإِلٰه فجبر   
وأنه سماعي. وأُطنب في وصف هذا الماء الدافق لإِدماج التعليم والعبرة بدقائق التكوين ليستيقظ الجاهل الكافر ويزداد المؤمن علماً ويقيناً. ووُصف أنه يخرج من { بين الصلب والترائب } لأن الناس لا يتفطنون لذلك. والخروج مستعمل في ابتداء التنقل من مكان إلى مكان ولو بدون بروز فإن بروز هذا الماء لا يكون من بين الصلب والترائب. و { الصلب } العمود العظمي الكائن في وسط الظهر، وهو ذو الفقرات. و { الترائب } جمع تريبة، ويقال تَريب. ومحرّر أقوال اللغويين فيها أنها عظام الصدر التي بين الترقُوَتَيْن والثَّديين ووسموه بأنه موضع القلادة من المرأة. والترائب تضاف إلى الرجل وإلى المرأة، ولكن أكثر وقوعها في كلامهم في أوصاف النساء لعدم احتياجهم إلى وصفها في الرجال. وقوله { يخرج من بين الصلب والترائب } الضمير عائد إلى { ماء دافق } وهو المتبادر فتكون جملة { يخرج } حالاً من { ماء دافق } أي يمر ذلك الماء بعد أن يفرز من بين صلب الرجل وترائبه.

السابقالتالي
2