الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ } * { ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ } * { وَٱللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ } * { وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } * { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } * { ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ } * { مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ }

الفاء لتفريع القسم وجوابه على الكلام السابق للإِشارة إلى ما تقدم من الكلام هو بمنزلة التمهيد لما بعد الفاء فإن الكلام السابق أفاد تحقيق وقوع البعث والجزاء وهم قد أنكروه وكذبوا القرآن الذي أنذرهم به، فلما قُضي حق الإِنذار به وذكر أشراطه فرع عنه تصديق القرآن الذي أنذرهم به وأنه موحى به من عند الله. فالتفريع هنا تفريع معنىً وتفريع ذِكرٍ معاً، وقد جاء تفريع القَسَم لمجرد تفريع ذكر كلام على كلام آخر كقول زهير
فأقسمتُ بالبيت الذي طاف حوله رجال بَنَوْه من قريش وجُرْهُم   
عَقِب نسيب معلقته الذي لا يتفرع عن معانيه ما بَعْد القَسَم وإنما قصد به أن ما تقدم من الكلام إنما هو للإِقبال على ما بعد الفاء، وبذلك يظهر تفوق التفريع الذي في هذه الآية على تفريع بيت زهير. ومعنى لا أقسم إيقاع القسم، وقد عُدّت لا زائدة، وتقدم عند قوله تعالىفلا أقسم بمواقع النجوم } في سورة الواقعة 75. والقسم مراد به تأكيد الخبر وتحقيقه، وأدمج فيه أوصاف الأشياء المُقْسَم بها للدلالة على تمام قدرة الله تعالى. والخُنّس جمع خانسة، وهي التي تخنس، أي تختفي، يقال خنست البقرة والظبية، إذا اختفت في الكناس. والجواري جمع جارية، وهي التي تجري، أي تسير سيراً حثيثاً. و { الكنس } جمع كانسة، يقال كَنسَ الظبي، إذا دخل كِناسه بكسر الكاف وهو البيت الذي يتخذه للمبيت. وهذه الصفات أريد بها صفات مجازية لأن الجمهور على أن المراد بموصوفاتها الكواكب، وصفن بذلك لأنها تكون في النهار مختفية عن الأنظار فشبهت بالوحشية المختفية في شجر ونحوه، فقيل الخُنَّس وهو من بديع التشبيه، لأن الخنوس اختفاء الوحش عن أنظار الصيادين ونحوهم دون سكون في كناس، وكذلك الكواكب لأنها لا تُرى في النهار لغلبة شعاع الشمس على أفقها وهي مع ذلك موجودة في مطالعها. وشبه ما يبدو للأنظار من تنقلها في سمت الناظرين للأفق باعتبار اختلاف ما يسامتها من جزء من الكرة الأرضية بخروج الوحش، فشبهت حالة بُدُوّها بعد احتجابها مع كونها كالمتحركة بحالة الوحش تجري بعد خنوسها تشبيه التمثيل. وهو يقتضي أنها صارت مرئية فلذلك عقب بعد ذلك بوصفها بالكُنّس، أي عند غروبها تشبيهاً لغروبها بدخول الظبي أو البقرة الوحشية كِناسها بعد الانتشار والجري. فشبه طلوع الكوكب بخروج الوحشية من كناسها، وشبه تنقل مَرآها للناظر بجري الوحشية عند خروجها من كناسها صباحاً، قال لبيد
حتى إذا انحسر الظلام وأسفرت بَكَرَتْ تَزل عن الثرى أزلامُها   
وشبه غروبها بعد سيرها بكنوس الوحشية في كناسها وهو تشبيه بديع فكان قوله { بالخنس } استعارة وكان { الجوارِ الكنس } ترشيحين للاستعارة. وقد حصل من مجموع الأوصاف الثلاث ما يشبه اللغز يحسب به أن الموصوفات ظباء أو وحوش لأن تلك الصفات حقائقها من أحوال الوحوش، والإِلغاز طريقة مستملحة عند بلغاء العرب وهي عزيزة في كلامهم، قال بعض شعرائهم وهو من شواهد العربية

السابقالتالي
2 3 4