الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } * { مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ } * { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } * { ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ } * { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } * { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ }

استئناف ابتدائي نشأ عن ذكر من استغنى فإنه أريد به معين واحد أو أكثرُ، وذلك يبيِّنه مَا وقع من الكلام الذي دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين صناديد المشركين في المجلس الذي دخل فيه ابن أم مكتوم. والمناسبة وصفُ القرآن بأنه تذكرة لمن شاء أن يتذكر، وإذ قد كان أكبر دواعيهم على التكذيب بالقرآن أنه أخبر عن البعث وطالَبهم بالإِيمان به كان الاستدلال على وقوع البعث أهم ما يعتنى به في هذا التذكير وذلك من أفنان قولهفمن شاء ذكره } عبس 12. والذي عُرِّف بقولهمن استغنى } عبس 5 يشمله العموم الذي أفاده تعريف { الإِنسان } من قوله تعالى { قُتل الإنسان ما أكفره }. وفعل قُتل فُلانٌ أصله دعاء عليه بالقتل. والمفسرون الأولون جعلوا { قتل الإنسان } أنه لُعِن، رواه الضحاك عن ابن عباس وقاله مجاهد وقتادة وأبو مالك. قال في «الكشاف» «دعاء عليه وهذا من أشنع دعواتهم»، أي فمورده غير مورد قوله تعالىقاتلهم اللَّه } التوبة 30 وقولِهم قاتَل الله فلاناً يريدون التعجب من حاله، وهذا أمر مرجعه للاستعمال ولا داعي إلى حمله على التعجيب لأن قوله { ما أكفره } يغني عن ذلك. والدعاء بالسوء من الله تعالى مستعمل في التحقير والتهديد لظهور أن حقيقة الدعاء لا تناسب الإلٰهية لأن الله هو الذي يتوجه إليه الناس بالدعاء. وبناء { قُتِل } للمجهول متفرع على استعماله في الدعاء، إذ لا غرض في قاتِل يَقتله، وكثر في القرآن مبنياً للمجهول نحوفقُتل كيف قَدَّر } المدثر 19. وتعريف { الإنسان } يجوز أن يكون التعريفَ المسمى تعريفَ الجنس فيفيد استغراق جميع أفراد الجنس، وهو استغراق حقيقي، وقد يراد به استغراق معظم الأفراد بحسب القرائن فتولَّدَ بصيغة الاستغراق ادعاء لعدم الاعتداد بالقليل من الأفراد، ويسمى الاستغراق العرفي في اصطلاح علماء المعاني، ويسمى العامَّ المرادَ به الخصوص في اصطلاح علماء الأصول والقرينة هنا ما بُين به كفر الإِنسان من قوله { مِن أي شيء خلقه } إلى قوله { ثم إذا شاء أنشره } فيكون المراد من قوله { الإنسان } المشركين المنكرين البعث، وعلى ذلك جملة المفسرين، فإن معظم العرب يومئذ كافرون بالبعث. قال مجاهد ما كان في القرآن { قُتل الإنسان } فإنما عُني به الكافر. والأحكام التي يحكم بها على الأجناس يراد أنها غالبة على الجنس، فالاستغراق الذي يقتضيه تعريف لفظ الجنس المحكوم عليه استغراق عرفي معناه ثبوت الحكم للجنس على الجملة، فلا يقتضي اتصاف جميع الأفراد به، بل قد يخلو عنه بعض الأفراد وقد يخلو عنه المتصف به في بعض الأحيان، فقوله { ما أكفره } تعجيب من كفر جنس الإنسان أو شدة كفره وإن كان القليل منه غير كافر. فآل معنى الإنسان إلى الكفار من هذا الجنس وهم الغالب على نوع الإِنسان.

السابقالتالي
2 3 4 5