الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

هذه الآيات استئناف ابتدائي للإعلام بأحكام موالاة المسلمين للمسلمين الذين هاجروا والذين لم يهاجروا، وعدم موالاتهم للذين كفروا، نشأ عن قول العباس بن عبد المطلب حين أسرّ ببدر أنّه مسلم، وأنّ المشركين أكرهوه على الخروج إلى بدر، ولعلّ بعض الأسرى غيره قد قال ذلك وكانوا صادقين، فلعل بعض المسلمين عطفوا عليهم وظنّوهم أولياء لهم، فأخبر الله المسلمين وغيرهم بحكم من آمن واستمرّ على البقاء بدار الشرك. قال ابن عطية «مقصد هذه الآية وما بعدها تبيين منازل المهاجرين والأنصار والمؤمنين الذين لم يهاجروا والكفار، والمهاجرين بعد الحديبية وذِكْرُ نِسَب بعضهم عن بعض». وتعرضت الآية إلى مراتب الذين أسلموا فابتدأت ببيان فريقين اتّحدَت أحكامهم في الولاية والمؤاساة حتى صاروا بمنزلة فريق واحد، وهؤلاء هم فريقا المهاجرين والأنصار الذين امتازوا بتأييد الدين. فالمهاجرون امتازوا بالسبق إلى الإسلام وتكبّدوا مفارقة الوطن. والأنصار امتازوا بإيوائهم، وبمجموع العملين حصل إظهار البراءة من الشرك وأهلِه، وقد اشترك الفريقان في أنّهم آمنوا وأنّهم جاهدوا، واختص المهاجرون بأنّهم هاجروا واختص الأنصار بأنّهم آووا ونصروا، وكان فضل المهاجرين أقوى لأنّهم فضلوا الإسلام على وطنهم وأهليهم، وبادر إليه أكثرهم، فكانوا قدوة ومثالاً صالحاً للناس. والمهاجرة هجر البلاد، أي الخروج منها وتركها، قال عَبدة بن الطبيب
إنّ التي ضَربتْ بيتاً مُهَاجَرةً بكوفةِ الجندِ غَالتْ وُدَّها غُول   
وأصل الهجرة الترك واشتقّ منه صيغة المفاعلة لخصوص ترك الدار والقوم، لأنّ الغالب عندهم كان أنّهم يتركون قومهم، ويتركهم قومهم إذ لا يفارق أحد قومه إلا لسوء معاشرة تنشأ بينه وبينهم. وقد كانت الهجرة من أشهر أحوال المخالفين لقومهم في الدين، فقد هاجر إبراهيم عليه السلاموقال إنّي ذاهب إلى ربّي سيهدين } الصافات 99. وهاجر لوط عليه السلاموقال إنّي مهاجر إلى ربّي إنه هو العزيز الحكيم } العنكبوت 26، وهاجر موسى عليه السلام بقومه، وهاجر محمد صلى الله عليه وسلم وهاجر المسلمون بإذنه إلى الحبشة، ثم إلى المدينة يثرب، ولما استقرّ المسلمون من أهل مكّة بالمدينة غلب عليهم وصف المهاجرين وأصبحت الهجرة صفة مدح في الدين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التفضيل " لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار " وقال للأعرابي " ويحك إنّ شأنها شديد " ـ وقال ـ " لا هجرة بعد الفتح " والإيواء تقدّم عند قوله تعالىفآواكم وأيدكم بنصره } في هذه السورة 26. والنصر تقدّم عند قوله تعالىواتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئاً } البقرة 123 إلى قولهولا هم ينصرون } في سورة البقرة 123. والمراد بالنصر في قوله { ونصروا } النصر الحاصل قبل الجهاد وهو نصر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأنّهم يحمونهم بما يحمون به أهلهم، ولذلك غلب على الأوس والخزرج وصف الأنصار.

السابقالتالي
2 3