الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } * { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

استئناف ابتدائي مناسب لما قبله سواء نزل بعقبه أم تأخّر نزوله عنه فكان موقعه هنا بسبب موالاة نزوله لنزول ما قبله أو كان وضع الآية هنا بتوقيف خاصّ. والمناسبة ذكر بعض أحكام الجهاد، وكان أعظم جهاد مضى هو جهاد يوم بدر. لا جرم نزلت هذه الآية بعد قضية فداء أسرى بدر مشيرة إليها. وعندي أن هذا تشريع مستقبل أخّره الله تعالى رفقاً بالمسلمين الذين انتصروا ببدر وإكراماً لهم على ذلك النصر المبين، وسدّاً لخلّتهم التي كانوا فيها، فنزلت لبيان الأمر الأجدر فيما جرى في شأن الأسرى في وقعة بدر. وذلك ما رواه مسلم عن ابن عبّاس، والترمذي عن ابن مسعود، ما مُختصره " أن المسلمين لما أسروا الأسارى يوم بدر وفيهم صناديد المشركين سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفاديهم بالمال وعَاهدوا على أن لا يعودوا إلى حربه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين «ما تَرون في هؤلاء الأسارى»، قال أبو بكر «يا نبي الله هم بنو العمّ والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوّة على الكفّار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام» وقال عُمر أرى أن تمكّننا فنضرب أعناقهم فإنّ هؤلاء أئمّة الكفر وصناديدها فَهوي رسولُ الله ما قال أبو بكر فأخذ منهم الفداء " كما رواه أحمد عن ابن عباس فأنزل الله { ما كان لنبيء أن يكون له أسرى } الآية. ومعنى قوله هَوِيَ رسولُ الله ما قال أبو بكر أنّ رسول الله أحبّ واختار ذلك لأنّه من اليسر والرحمة بالمسلمين إذ كانوا في حاجة إلى المال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خُيّر بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً. وروي أنّ ذلك كان رغبة أكثرهم وفيه نفع للمسلمين، وهم في حاجة إلى المال. ولمّا استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَ مشُورته تعيّن أنّه لم يُوح الله إليه بشيء في ذلك، وأنّ الله أوْكل ذلك إلى اجتهاد رسوله عليه الصلاة والسلام فرأى أنّ يستشير الناس ثم رجَّح أحد الرأيين باجتهاد، وقد أصاب الاجتهادَ، فإنّهم قد أسلم منهم، حينئذ، سُهيل بن بيضاء، وأسلم من بعدُ العباسُ وغيره، وقد خفي على النبي صلى الله عليه وسلم شيء لم يعلمه إلاّ الله وهو إضمار بعضهم ـ بعد الرجوع إلى قومهم ـ أن يتأهّبوا لقتال المسلمين من بعد. وربّما كانوا يضمرون اللحاق بفل المشركين من موضع قريب ويعودون إلى القتال فينقلب انتصار المسلمين هزيمة كما كان يومَ أُحُد، فلأجل هذا جاء قوله تعالى { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض }.

السابقالتالي
2 3 4 5