الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ }

أعيد نداء النبي صلى الله عليه وسلم للتنويه بشأن الكلام الوارد بعد النداء وهذا الكلام في معنى المقصد بالنسبة للجملة التي قبله، لأنّه لما تكفّل الله له الكفاية، وعطف المؤمنين في إسناد الكفاية إليهم، احتيج إلى بيان كيفية كفايتهم، وتلك هي الكفاية بالذبّ عن الحوزة وقتال أعداء الله، فالتعريف في { القتال } للعهد، وهو القتال الذي يعرفونه، أعني قتال أعداء الدين. والتحريض المبالغةُ في الطلب. ولمّا كان عموم الجنس الذي دل عليه تعريف القتال يقتضي عموم الأحوال باعتبار المقاتَلين ـ بفتح التاء ـ وكان في ذلك إجمال من الأحوال، وقد يكون العدو كثيرين ويكون المؤمنون أقلّ منهم، بيّن هذا الإجمال بقوله { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } الآية. وضمير { منكم } خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين. وفصلت جملة { إن يكن منكم عشرون صابرون } لأنها لمّا جعلت بياناً لإجمال كانت مستأنفة استئنافاً بيانيا، لأن الإجمال من شأنه أن يثير سؤال سائل عمّا يعمل إذا كان عدد العدوّ كثيراً، فقد صار المعنى حرض المؤمنين على القتال بهذه الكيفية. و { صابرون } ثابتون في القتال، لأنّ الثبات على الالآم صبر، لأنّ أصل الصبر تحمّل المشاقّ، والثباتُ منه، قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } وفي الحديث " لا تتمنّوا لقاء العدوّ واسألوا الله العافية فإذا لاقيتم فاصبروا " وقال النابغة
تجنب بَني حُنَ فإنّ لقاءهم كَريه وإن لم تَلق إلاّ بصابر   
وقال زفر بن الحارث الكلابي
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ولكنّهم كانوا على الموت أصبرا   
والمعنى عُرفوا بالصبر والمقدرة عليه، وذلك باستيفاء ما يقتضيه من أحوال الجسد وأحوال النفس، وفيه إيماء إلى توخّي انتقاء الجيش، فيكون قيداً للتحريض، أي حرّض المؤمنين الصابرين الذين لا يتزلزلون، فالمقصود أن لا يكون فيهم من هو ضعيف النفس فيفشل الجيش، كقول طالوتإن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني } البقرة 249. وذُكر في جانب جيش المسلمين في المرّتين عدد العشرين وعددُ المائة، وفي جانب جيش المشركين عددُ المائتين وعدد الألف، إيماءً إلى قلّة جيش المسلمين في ذاته، مع الإيماء إلى أنّ ثباتهم لا يختلف باختلاف حالة عددهم في أنفسهم، فإنّ العادة أنّ زيادة عددُ الجيش تقوي نفوس أهله، ولو مع كون نسبة عددهم من عدد عدوّهم غير مختلفة، فجعل الله الإيمان قوّةً لنفوس المسلمين تدفع عنهم وهَن استشعار قلّة عدد جيشهم في ذاته. أمّا اختيار لفظ العشرين للتعبير عن مرتبة العشرات دون لفظ العشرة فلعل وجهه أنّ لفظ العشرين أسعد بتقابل السكنات في أواخر الكلم لأنّ للفظِه مائتين من المناسبة بسكنات كلمات الفواصل من السورة، ولذلك ذكر المائة مع الألف، لأنّ بعدها ذِكرَ مميز العدد بألفاظ تناسب سكنات الفاصلة، وهو قوله { لا يفقهون } فتعيّن هذا اللفظ قضاء لحقّ الفصاحة.

السابقالتالي
2