الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن يُرِيدُوۤاْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللَّهُ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ } * { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

لمّا كان طلب السلم والهدنة من العدوّ قد يكون خديعة حربية، ليَغرُّوا المسلمين بالمصالحة ثمّ يأخذوهم على غرّة، أيقظ الله رسوله لهذا الاحتمال فأمره بأن يأخذ الأعداء على ظاهر حالهم، ويحملهم على الصدق، لأنّه الخُلق الإسلامي، وشأن أهل المُروءة، ولا تكون الخديعة بمثل نكث العهد، فإذا بعث العدوَّ كفرُهم على ارتكاب مثل هذا التسفّل، فإنّ الله تكفّل، للوفي بعهده، أن يقيه شرّ خيانة الخائنِين. وهذا الأصل، وهو أخذ الناس بظواهرهم، شعبة من شعب دين الإسلام قال تعالىفأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم إن الله يحب المتقين } التوبة 4 وفي الحديث آية المنافق ثلاث، منها وإذا وعد أخلف. ومن أحكام الجهاد عن المسلمين أن لا يخفر للعدوّ بعهد. والمعنى إنْ كانوا يريدون من إظهار ميلهم إلى المسالمة خديعةً فإنّ الله كافيك شرّهم. وليس هذا هو مقام نبذ العهد الذي في قولهوإما تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } الأنفال 58 فإنّ ذلك مقام ظهور أمارات الخيانة من العدوّ، وهذا مقام إضمارهم الغدر دون أمارة على ما أضمروه. فجملة { فإن حسبك الله } دلّت على تكفّل كفايته، وقد أريد منه أيضاً الكناية عن عدم معاملتهم بهذا الاحتمال، وأن لا يتوجّس منه خيفة، وأنّ ذلك لا يضرّه. والخديعة تقدّمت في قوله تعالىيخادعون الله } من سورة البقرة 9. وحسب معناه كاف وهو صفة مشبّهة بمعنى اسم الفاعل، أي حاسبك، أي كافيك وقد تقدّم قوله تعالىوقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } في سورة آل عمران 173. وتأكيد الخبر بإنْ مراعى فيه تأكيد معناه الكنائي، لأنّ معناه الصريح ممّا لا يشكّ فيه أحد. وجَعْل { حسبك } مسنداً إليه، مع أنّه وصف، وشأن الإسناد أن يكون للذات، باعتبار أنّ الذي يخطر بالبال باديء ذي بدء هو طلب من يكفيه. وجملة { هو الذي أيدك بنصره } مستأنفة مسوقة مساق الاستدلال على أنّه حَسبه، وعلى المعنى التعريضي وهو عدم التحَرّج من احتمال قصدهم الخيانة والتوجّس من ذلك الاحتمال خيفة، والمعنى فإنّ الله قد نصرك من قبل وقد كنت يومئذ أضعف منك اليوم، فنصَرك على العدوّ وهو مجاهر بعدْوَانِه، فنصرُه إيَّاك عليهم مع مخاتلتهم، ومع كونك في قوّة من المؤمنين الذين معك، أولى وأقرب. وتعدية فعل { يخدعوك } إلى ضمير النبي عليه الصلاة والسلام باعتبار كونه وليّ أمر المسلمين، والمقصود وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك الله، وقد بُدّل الأسلوب إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ليتوصّل بذلك إلى ذكر نصره من أول يوم حين دعا إلى الله وهو وحده مخالفاً أمّة كاملة. والتأييد التقوية بالإعانة على عمل. وتقدّم في قولهوآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيّدناه بروح القدس }

السابقالتالي
2 3