الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }

انتقال من بيان أحوال معاملة العدوّ في الحرب من وفائهم بالعهد، وخيانتهم، وكيف يحلّ المسلمون العهد معهم إن خافوا خيانتهم، ومعاملتهم إذا ظفروا بالخائنين، والأمر بالاستعداد لهم إلى بيان أحكام السلم إن طلبوا السلم والمهادنة، وكفّوا عن حالة الحرب. فأمر الله المسلمين بأن لا يأنفوا من السلم وأن يوافقوا من سأله منهم. والجنوح المَيْل، وهو مشتقّ من جناح الطائِر لأنّ الطائِر إذا أراد النزول مال بأحد جناحيه، وهو جناح جانبه الذي ينزل منه، قال النابغة يصف الطير تتبع الجيش
جوانِحُ قد أيقنَّ أنّ قبيلَه إذا ما التقى الجمعان أوَّلُ غالب   
فمعنى { وإن جنحوا للسلم } إن مالوا إلى السلم ميل القاصد إليه، كما يميل الطائِر الجانح. وإنّما لم يقل وإن طلبوا السلم فأجبهم إليهم، للتنبيه على أنّه لا يسعفهم إلى السلم حتى يعلم أن حالهم حال الراغب، لأنّهم قد يظهرون الميل إلى السلم كيداً، فهذا مقابل قولهوإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } الأنفال 58 فإن نبذ العهد نبذ لحال السلم. واللام في قوله { للسلم } واقعة موقع إلى لتقوية التنبيه على أنّ ميلهم إلى السلم ميل حق، أي وإن مالوا لأجل السلم ورغبة فيه لا لغرض آخر غيره، لأنّ حقّ { جَنح } أن يعدّى بـإلى لأنّه بمعنى مال الذي يعدّى بإلى فلا تكون تعديته باللام إلاّ لغرض، وفي «الكشّاف» أنّه يقال جنح له وإليه. والسلم ـ بفتح السين وكسرها ـ ضدّ الحرب. وقرأه الجمهور ـ بالفتح ـ، وقرأه حمزة، وأبو بكر عن عاصم، وخلَف ـ بكسر السين ـ وحقّ لفظه التذكير، ولكنّه يؤنّث حملاً على ضدّه الحرب وقد ورد مؤنّثاً في كلامهم كثيراً. والأمر بالتوكّل على الله، بعد الأمر بالجنوح إلى السلم، ليكون النبي صلى الله عليه وسلم معتمداً في جميع شأنه على الله تعالى، ومفوّضاً إليه تسيير أموره، لتكون مدّة السلم مدّة تقوّ واستعداد، وليكفيه الله شرّ عدوّه إذا نقضوا العهد، ولذلك عُقب الأمر بالتوكّل بتذكيره بأنّ الله السميع العليم، أي السميع لكلامهم في العهد، العليمُ بضمائرهم، فهو يعاملهم على ما يعلم منهم. وقوله { فاجنح لها } جيء بفعل { اجنح } لمشاكلة قوله { جنحوا... }. وطريق القصر في قوله { هو السميع العليم } أفاد قصر معنى الكمال في السمع والعلم، أي فهو سميع منهم ما لا تسمع ويعلم ما لا تعلم. وقصر هذين الوصفين بهذا المعنى على الله تعالى عقب الأمر بالتوكل عليه يفضي إلى الأمر بقصر التوكّل عليه لا على غيره. وفي الجمع بين الأمر بقصر التوكل عليه وبين الأمر بإعداد ما استطاع من القوة للعدوّ دليل بَيِّن على أنّ التوكّل أمر غير تعاطي أسباب الأشياء، فتعاطي الأسباب فيما هو من مقدور الناس، والتوكّل فيما يخرج عن ذلك.

السابقالتالي
2