الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

يتعلّق { إذ يقول } بأقرب الأفعال إليه وهو قولهزَيَّن لهم الشيطان أعمالهم } الأنفال 48 مع ما عطف عليه من الأفعال، لأنّ { إذ } لا تقتضي أكثر من المقارنة في الزمان بين ما تضاف إليه وبين متعلَّقها، فتعين أن يكون قول المنافقين واقعاً في وقت تزيين الشيطان أعمال المشركين فيتم تعليق وقت قول المنافقين بوقت تزيين الشيطان أعمال المشركين، وإنّما تُطلب المناسبة لذكر هذا الخبر عقب الذي وَليه هو، وتلك هي أنّ كلا الخبرين يتضمّن قوّة جيش المشركين، وضعف جيش المسلمين، ويقينَ أولياء الشيطان بأنّ النصر سيكون للمشركين على المسلمين. فالخبر الأول عن طائفة أعانت المشركين بتأمينهم من عدوّ يخشونه فانحازت إليهم علناً، وذلك يستلزم تقبيح ما أقحم المسلمون فيه أنفسهم إذ عمدوا إلى قتال قوم أقوياء. والخبر الثاني عن طائفتين شوَّهتا صنيع المسلمين حَمَّقتَاهُم ونَسَبَتاهم إلى الغرور فأسرّوا ذلك ولم يبوحوا به، وتحدّثوا به فيما بينهم، أو أسرّوه في نفوسهم. فنَظْم الكلام هكذا وزيَّن الشيطان للمشركين أعمالهم حين كان المنافقون يقبحون أعمال المسلمين ويصفونهم بالغرور وقلّة التدبير من اعتقادهم في دينهم الذي أوقعهم في هذا الغرور ويجول في نفوس الذين في قلوبهم مرض مثل هذا. و«القول» هنا مستعمل في حقيقته ومجازه الشامل لحديث النفس، لأنّ المنافقين يقولون ذلك بألسنتهم، وأمّا الذين في قلوبهم مرض وهم طائفة غير المنافقين، بل هم مَن لم يتمكّن الإيمان من قلوبهم. فيقولونه في أنفسهم لما لهم من الشكّ في صدق وعد النبي صلى الله عليه وسلم لأنّهم غير موالين للمنافقين، ويجوز أن يتحدّثوا به بين جماعتهم. و«المرض» هنا مجاز في اختلال الاعتقاد، شبه بالمرض بِوجهِ سوء عاقبته عليهم. وقد تقدّم في قوله تعالىفي قلوبهم مرض } في أول البقرة 10. وأشاروا بـ { هؤلاء } إلى المسلمين الذين خرجوا إلى بدر، وقد جرت الإشارة على غير مشاهد، لأنّهم مذكورون في حديثهم أو مستحضَرون في أذهانهم، فكانوا بمنزلة الحاضر المشاهد لهم وهم يتعارفون بمثل هذه الإشارة في حديثهم عن المسلمين. والغرور الإيقاع في المضرّة بإيهام المنفعة، وقد تقدّم عند قوله تعالىلا يغُرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } في سورة آل عمران 196، وقولهزخرف القول غروراً } في سورة الأنعام 112. والدين هو الإسلام، وإسنادهم الغرور إلى الدين باعتبار ما فيه من الوعد بالنصر من نحو قولهإن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } الأنفال 65 الآية، أي غرّهم ذلك فخرجوا وهم عدد قليل للقاء جيش كثير، والمعنى إذ يقولون ذلك عند اللقاء وقبل حصول النصر. فإطلاق الغرور هنا مجاز، وإسناده إلى الدين حقيقة عقلية. وجملة { ومن يتوكّل على الله فإن الله عزيزٌ حكيم } معطوفة على جملةوإذ زين لهم الشيطان أعمالهم }

السابقالتالي
2