الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }

{ وإذ زين } عطف علىوإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً } الأنفال 44 الآية. وما بينهما اعتراض، رُتّب نظمه على أسلوبه العجيب ليقع هذا الظرف عقب تلك الجمل المعتَرضة، فيكون له إتمام المناسبة بحكاية خروجهم وأحوالِه، فإنّه من عجيب صنع الله فيما عرض للمشركين من الأحوال في خروجهم إلى بدر، ممّا كان فيه سبب نصر المسلمين، وليقع قولهولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم } الأنفال 47 عَقِب أمر المسلمين بما ينبغي لهم عند اللقاء، ليجمع لهم بين الأمر بما ينبغي والتحذير ممّا لا ينبغي، وترك التشبه بمن لا يرتضَى، فيتمّ هذا الأسلوب البديع المحكمُ الانتظامِ. وأشارت هاته الآية إلى أمر عجيب كان من أسباب خِذلان المشركين إذ صرف الله عن المسلمين كيداً لهم حين وسوس الشيطان لسراقَةَ بنِ مالك بن جعْشُم الكناني أن يجيء في جيش من قومه بني كنانة لنصر المشركين حين خرجوا للدفاع عن عِيرهم، فألقى الله في رُوع سراقة من الخوف، ما أوجب انخزاله وجيشه عن نصر المشركين، وأفسد الله كيد الشيطان بما قذفه الله في نفس سُراقة من الخوف وذلك أنّ قريشاً لمّا أجمعوا أمرهم على السير إلى إنقاذ العِير ذكروا ما كان بينهم وبين كنانة من الحرب فكاد أن يثبّطهم عن الخروج، فلقيهم في مسيرهم سُراقة بن مالك في جند معه راية وقال لهم لا غالب لكم اليوم، وإنّي مجيركم من كنانة، فقوي عزم قريش على المسير، فلمّا أمعنوا السير وتقارَبَ المشركون من منازل جيش المسلمين، ورأى سُراقة الجيشين، نكص سُراقة بمن معه وانطلقوا، فقال له الحارث بن هشام، أخُو أبي جهل «إلى أينَ أتخذلنا في هذه الحال» فقال سراقة «إني أرى ما لا ترون» فكان ذلك من أسباب عزم قريش على الخروج والمسير، حتّى لقوا هزيمتهم التي كتب الله لهم في بدر، وكان خروج سُراقة ومن معه بوسوسة من الشيطان، لئلا ينثني قريش عن الخروج، وكان انخزال سراقة بتقدير من الله ليتمّ نصر المسلمين، وكان خاطر رجوع سراقة خاطراً ملَكياً ساقه الله إليه لأنّ سراقة لم يزل يتردّد في أن يسلم منذ يوم لقائه رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة، حين شاهد معجزة سَوْخ قوائم فرسه في الأرض، وأخذِه الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورويت له أبيات خاطب بها أبا جهل في قضيته في يوم الهجرة، وما زال به ذلك حتى أسلم يوم الفتح. وتزيين الشيطان للمشركين أعمالهم، يجوز أن يكون إسناداً مجازياً، وإنّما المزيّن لهم سُراقة بإغراء الشيطان، بما سوّل إلى سراقة بن مالك من تثبيته المشركين على المضي في طريقهم لإنقاذ عيرهم، وأن لا يخشوا غَدْر كنانة بهم، وقيل تمثّل الشّيطان للمشركين في صورة سراقة، وليس تمثّل الشيطان وجنده بصورة سراقة وجيشه بمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنّما روي ذلك عن قول ابن عبّاس، وتأويلُ ذلك أنّ ما صدر من سراقة كان بوسوسة من الشيطان، ويجوز أن يكون اسم الشيطان أطلق على سراقة لأنّه فعل فعل الشيطان كما يقولون فلان من شياطين العرب ويجوز أن يكون إسناداً حقيقاً أي زيّن لهم في نفوسهم بخواطر وسوسته، وكذلك إسناد قوله { لا غالب لكم } إليه مجاز عقلي باعتبار صدور القول والنكوص من سُراقة المتأثر بوسوسة الشيطان.

السابقالتالي
2