الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } * { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ }

لمّا عرّفهم الله بنعمه ودلائل عنايته، وكشف لهم عن سرّ من أسرار نصره إيّاهم، وكيف خذل أعداءهم، وصرفهم عن أذاهم، فاستتبَّ لهم النصر مع قلتهم وكثرة أعدائهم، أقبل في هذه الآية على أن يأمرهم بما يهيءّ لهم النصر في المواقع كلّها، ويستدعي عناية الله بهم وتأييدَه إيّاهم، فجمع لهم في هذه الآية ما به قِوام النصر في الحروب. وهذه الجمل معترضة بين جملةوإذ يريكموهم } الأنفال 44 وجملةوإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } الأنفال 48. وافتتحت هذه الوصايا بالنداء اهتماماً بها، وجُعل طريق تعريف المنادى طريق الموصولية لما تؤذن به الصلة من الاستعداد لامتثال ما يأمرهم به الله تعالى، لأنّ ذلك أخصّ صفاتهم تلقاءَ أوامر الله تعالى، كما قال تعالىإنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } النور 51. واللقاء أصله مصادفة الشخص ومواجهته، باجتماع في مكان واحد، كما تقدّم عند قوله تعالىفتلقى آدم من ربه كلمات } البقرة 37 وقولهواتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه } في سورة البقرة 223. وقد غلب إطلاقه على لقاء خاصّ وهو لقاء القتال، فيرادف القتال والنزال. وقد تقدم اللقاء قريباً في قوله تعالىيا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا } الأنفال 15 وبهذا المعنى تعيّن أنّ المراد بالفئة فئة خاصّة وهي فئة العدوّ، يعني المشركين. و«الفئة» الجماعة من الناس، وقد تقدّم اشتقاقها عند قوله تعالىكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة } في سورة البقرة 249. وذكِر الله، المأمور به هنا هو ذكره باللسان، لأنّه يتضمّن ذكر القلب، وزيادة فإنّه إذا ذكر بلسانه فقد ذكر بقلبه وبلسانه، وسَمِع الذكرَ بسمعه، وذكَّر مَن يليه بذلك الذّكر، ففيه فوائد زائدة على ذكر القلب المجرّد، وقرينة إرادة ذكر اللسان ظاهرُ وصفهِ بـ " كثير " لأنّ الذكر بالقلب يوصف بالقوة، والمقصود تذكر أنّه الناصر. وهذان أمران أمروا بهما وهما يَخصّان المجاهد في نفسه، ولذلك قال { لعلكم تفلحون }. فهما لإصلاح الأفراد، ثم أمرهم بأعمال راجعة إلى انتظام جيشهم وجماعتهم، وهي علائق بعضهم مع بعض، وهي الطاعة وترك التنازع، فأمّا طاعة الله ورسوله فتشمل اتّباع سائر أحكام القتال المشروعة بالتعيين، مثل الغنائم. وكذلك ما يأمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من آراء الحرب، كقوله للرُّماة يوم أحد " لا تبرحوا من مكانكم ولو تَخَطَّفَنَا الطيرُ " وتشمل طاعةُ الرسول عليه الصلاة والسلام طاعةَ أمرائه في حياته، لقوله " ومن أطاع أميري فقد أطاعني " وتشمل طاعة أمراء الجيوش بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لمساواتهم لأمرائه الغائبين عنه في الغزوات والسرايا في حكم الغَيبة عن شخصه. وأمّا النهي عن التنازع فهو يقتضي الأمر بتحصيل أسباب ذلك بالتفاهم والتشاور، ومراجعة بعضهم بعضاً، حتّى يصدروا عن رأي واحد، فإن تنازعوا في شيء رجعوا إلى أمرائهم لقوله تعالى

السابقالتالي
2