الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِيۤ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِيۤ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ }

{ وإذ يريكموهم } عطف علىإذ يريكهم الله } الأنفال 43 وهذه رؤيةُ بَصَر أراها الله الفريقين على خلاف ما في نفس الأمر، فكانت خطأ من الفريقين، ولم يُرها النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك عديت رؤيا المنام الصادقة إلى ضمير النبي، في قولهإذ يريكهم الله } الأنفال 43 وجُعلت الرؤية البصرية الخاطئة مسندة إلى ضمائر الجَمعين، وظاهر الجمع يعمّ النبي صلى الله عليه وسلم فيُخصّ من العموم. أرَى الله المسلمين أنّ المشركين قليلون، وأرى المشركين أنّ المسلمين قليلون. خَيل الله لكلا الفريقين قلّة الفريق الآخر، بإلقاء ذلك التخيّل في نفوسهم، وجعل الغاية من تينك الرؤيتَين نصر المسلمين، وهذا من بديع صنع الله تعالى إذ جعل للشيء الواحد أثرين مختلفين، وجعل للأثرين المختلفين أثراً متّحداً، فكان تخيّل المسلمين قلّة المشركين مقويّاً لقلوبهم، وزائداً لشجاعتهم، ومزيلاً للرعب عنهم، فعظم بذلك بأسهم عند اللقاء، لأنّهم ما كان ليفلّ من بأسهم إلاّ شعورهم بأنّهم أضعف من أعدائهم عَدداً وعُدداً، فلمّا أزيل ذلك عنهم، بتخييلهم قلّة عدوّهم، خلصت أسباب شدّتهم ممّا يوهنها. وكان تخيّل المشركين قلّة المسلمين، أي كونَهم أقلّ ممّا هم عليه في نفس الأمر، بَرْداً على غليان قلوبهم من الغيظ، وغارّاً إياهم بأنّهم سينالون التغلّب عليهم بأدنى قتال، فكان صارفاً إيّاهم عن التأهّب لقتال المسلمين، حتّى فاجأهم جيش المسلمين، فكانت الدائرةُ على المشركين، فنتج عن تخيّل القلّتين انتصار المسلمين. وإنّما لم يكن تخيل المسلمين قلة المشركين مثبطاً عزيمتهم، كما كان تخيّل المشركين قلّة المسلمين مثبطاً عزيمتهم، لأنّ المسلمين كانت قلوبهم مفعمة حنقاً على المشركين، وإيماناً بفساد شركهم، وامتثالاً أمرَ الله بقتالهم، فما كان بينهم وبين صبّ بأسهم على المشركين إلاّ صرف ما يثبط عزائمهم. فأمّا المشركون، فكانوا مزدهين بعَدائهم وعنادهم، وكانوا لا يرون المسلمين على شيء، فهم يحسبون أنّ أدنى جولة تجول بينهم يقبضون فيها على المسلمين قبضاً، فلذلك لا يعبؤون بالتأهّب لهم، فكان تخييل ما يزيدهم تهاوناً بالمسلمين يزيد تواكلهم وإهمال إجماع أمرهم. قال أهل السير كان المسلمون يحسبون عدد المشركين يتراوح بين السبعين والمائة وكانوا في نفس الأمر زهاء ألف، وكان المشركون يحسبون المسلمين قليلاً، فقد قال أبو جهل لقومه، وقد حَزر المسلمين إنّما هم أكَلَةُ جَزُور، أي قُرابةُ المائة، وكانوا في نفس الأمر ثلاثمائة وبضعة عشر. وهذا التخيل قد يحصل من انعكاس الأشعّة واختلاف الظِّلال، باعتبار مواقع الرائين من ارتفاع المواقع وانخفاضها، واختلاف أوقات الرؤية على حسب ارتفاع الشمس، وموقع الرائين من مواجهتها أو استدبارها، وبعض ذلك يحصل عند حدوث الآل والسراب، أو عند حدوث ضباب أو نحو ذلك، وإلقاء الله الخيال في نفوس الفريقين أعظم من تلك الأسباب.

السابقالتالي
2 3