الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا وَهُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي ٱلْمِيعَادِ وَلَـٰكِن لِّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ }

{ إذ } بدل منيوم التقى الجمعان } الأنفال 41 فهو ظرف بـأنزلنا } الأنفال 41 أي زمن أنتم بالعدوة الدنيا، وقد أريد من هذا الظرف وما أضيف إليه تذكيرهم بحالة حرجة كان المسلمون فيها، وتنبيههم للطف عظيم حفّهم من الله تعالى، وهي حالة موقع جيش المسلمين من جيش المشركين، وكيف التقى الجيشان في مكان واحد عن غير ميعاد، ووجَد المسلمون أنفسهم أمام عدوّ قوي العِدّة والعُدّة والمَكانة من حسن الموقع. ولولا هذا المقصد من وصف هذه الهيئة لما كان من داع لهذا الإطناب إذ ليس من أغراض القرآن وصف المنازل إذا لم تكن فيه عبرة. والعدوة بتثليث العين صفة الوادي وشاطئه، والضمّ والكسر في العين أفصح وعليهما القراءات المشهورة، فقرأه الجمهور ـ بضمّ العين ـ، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، و يعقوب ـ بكسر العين ـ. والمراد بها شاطىء وادي بدر. وبدر اسم ماء. { والدنيا } هي القريبة أي العدوة التي من جهة المدينة، فهي أقربُ لجيش المسلمين من العُدوة التي من جهة مكة. و { العدوة القصوى } هي التي ممّا يلي مكة، وهي كثيب، وهي قصوى بالنسبة لموقع بلد المسلمين. والوصف بـ { الدنيا } و { القصوى } يَشعُر المخاطبون بفائدته، وهي أنّ المسلمين كانوا حريصين أن يسبقوا المشركين إلى العدوة القصوى، لأنّها أصلب أرضاً فليس للوصف بالدنو والقصُو أثر في تفضيل إحدى العدوتين على الأخرى، ولكنّه صادف أن كانت القصوى أسعدَ بنزول الجيش، فلمّا سبق جيشُ المشركين إليها اغتمّ المسلمون، فلمّا نزل المسلمون بالعدوة الدنيا أرسل الله المطر وكان الوادي دَهْساً فلبّد المطرُ الأرضَ ولم يعقهم عن المسير وأصاب الأرض التي بها قريش فعطّلهم عن الرحيل، فلم يبلغوا بدراً إلاّ بعد أن وصل المسلمون وتخيروا أحسن موقع وسبقوا إلى الماء، فاتّخذوا حوضاً يكفيهم وغوروا الماء، فلمّا وصل المشركون إلى الماء وجدوه قد احتازه المسلمون، فكان المسلمون يشربون ولا يجد المشركون ماء. وضمير { وهم } عائد إلى ما في لفظ { الجمعان } من معنى جمعكم وجمع المشركين، فلمّا قال { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } لم يبق معاد لضمير { وهم } إلاّ الجمع الآخر وهو جمع المشركين. و { الركب } هو ركب قريش الراجعون من الشام، وهو العِير. { أَسْفَلَ } من الفريقين أي أخفض من منازلهما، لأن العيِر كانوا سائِرين في طريق الساحل، وقد تركوا ماءَ بدر عن يسارهم. ذلك أنّ أبا سفيان لمّا بلغه أنّ المسلمين خرجوا لتلقي عيره رجع بالعير عن الطريق التي تمرّ ببدر، وسلك طريق الساحل لينجو بالعير، فكان مسيره في السهول المنخفضة، وكان رجال الركب أربعين رجلاً. والمعنى والركب بالجهة السفلى منكم، وهي جهة البحر وضمير { منكم } خطاب للمسلمين المخاطبين بقوله { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } والمعنى أنّ جيش المسلمين كان بين جماعتين للمشركين، وهما جيش أبي سفيان بالعدوة القصوى، وعير القوم أسفل من العدوة الدنيا، فلو علم العدوّ بهذا الوضع لطبّق جماعتيه على جيش المسلمين، ولكن الله صرفهم عن التفطّن لذلك وصرف المسلمين عن ذلك، وقد كانوا يطمعون أن يصادفوا العير فينتهبوها كما قال تعالى

السابقالتالي
2 3 4 5