الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

انتقال لبيان ما أجمل من حكم الأنفال، الذي افتتحته السورة، ناسب الانتقال إليه ما جرى من الأمر بقتال المشركين إن عادوا إلى قتال المسلمين. والجملة معطوفة على جملةوقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } الأنفال 39. وافتتاحه بـ { اعلموا } للاهتمام بشأنه، والتنبيهِ على رعاية العمل به، كما تقدّم في قولهواعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } الأنفال 24 فإنّ المقصود بالعلم تقرّر الجزم بأنّ ذلك حكم الله، والعمل بذلك المعلوم، فيكون { اعلموا } كناية مراداً به صريحه ولازمه. والخطاب لجميع المسلمين وبالخصوص جيش بدر، وليس هذا نسخاً لحكم الأنفال المذكور أوّل السورة، بل هو بيان لإجمال قوله { للَّه.. وللرسول } وقال أبو عبيد إنّها ناسخة، وأنّ الله شرع ابتداء أنّ قسمة المغانم لرسوله صلى الله عليه وسلم يريد أنها لاجتهاد الرسول بدون تعيين، ثم شرع التخميس. وذكروا أنّ رسول الله لم يخمّس مغانم بدر، ثم خمّس مغانم أخرى بعد بدر، أي بعد نزول آية سورة الأنفال، وفي حديث علي أنّ رسول الله أعطاه شارفاً من الخمس يوم بدر، فاقتضت هذه الرواية أنّ مغانم بدر خمّست. وقد اضطربت أقوال المفسّرين قديماً في المراد من المغنم في هذه الآية، ولم تنضبط تقارير أصحاب التفاسير في طريقة الجمع بين كلامهم على تفاوت بينهم في ذلك، ومنهم من خلطها مع آية سورة الحشر، فجعل هذه ناسخة لآية الحشر والعكس، أو أنّ إحدى الآيتين مخصّصة للأخرى إمّا في السهام، وإمّا في أنواع المغانم، وتفصيل ذلك يطول. وتردّدوا في مسمّى الفيء فصارت ثلاثة أسماء مجالاً لاختلاف الأقوال النفَل، والغنيمة، والفيء. والوجه عندي في تفسير هذه الآية، واتّصالها بقولهيسألونك عن الأنفال } الأنفال 1 أنَّ المراد بقوله { ما غنمتم } في هذه الآية ما حصلتم من الغنائم من متاع الجيش، وذلك ما سمّي بالأنفال، في أوّل السورة، فالنفل والغنيمة مترادفان، وذلك مقتضى استعمال اللغة، فعن ابن عبّاس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وعكرمة، وعطاء الأنفال الغنائم. وعليه فوجه المخالفة بين اللفظين إذ قال تعالى هناغنمتم } وقال في أوّل السورة الأنفال 1يسألونك عن الأنفال } لاقتضاء الحال التعبيرَ هنا بفعلٍ، وليس في العربية فعل من مادّة النفَل يفيد إسناد معناه إلى من حَصَل له، ولذلك فآية { واعلموا أنما غنمتم } سيقت هنا بياناً لآية { يسألونك عن الأنفال فإنّهما وردتا في انتظام متّصل من الكلام. ونرى أنّ تخصيص اسم النفَل بما يعطيه أميرُ الجيش أحدَ المقاتلين زائداً على سهمه من الغنيمة سواء كان سلبَاً أو نحوه ممّا يسعه الخمس أو من أصل مال الغنيمة على الخلاف الآتي، إنّما هو اصطلاح شاع بين أمراء الجيوش بعد نزول هذه الآية، وقد وقع ذلك في كلام عبد الله بن عمر، وأمّا ما روي عن ابن عبّاس أنّ الأنفال ما يصل إلى المسلمين بغير قتال، فجعلها بمعنى الفيء، فمحمله على بيان الاصطلاح الذي اصطلحوا عليه من بعد.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8