الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } * { وَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ }

عطف على جملةإن الذين كفروا ينفقون أموالَهم } الأنفال 36 الآية، ويجوز أن تكون عطفاً على جملةفقد مضتْ سنت الأولين } الأنفال 38 فتكون مما يدخل في حكم جَواب الشرط. والتقدير فإن يعودوا فقاتلوهم، كقولهوإن عدتم عدنا } الإسراء 8 ـ وقوله -وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله } التوبة 3 والضمير عائِد إلى مشركي مكة. والفتنة اضطراب أمر الناس ومَرَجهم، وقد تقدم بيانها غير مرة، منها عند قوله تعالىإنما نحن فتنةٌ فلا تكفر } في سورة البقرة 102 وقولهوحسبوا أن لا تكون فتنة } في سورة العقود71. والمراد هنا أن لا تكون فتنة من المشركين لأنه لما جُعل انتفاء والفتنة غاية لقتالهم، وكان قتالهم مقصوداً منه إعدامُهم أوْ إسلامهم، وبأحَد هذين يكون انتفاء الفتنة، فنتج من ذلك أن الفتنة المرادَ نفيُها كانت حاصلة منهم وهي فتنتهم المسلمين لا محالة، لأنهم إنما يفتِنون مَن خالفهم في الدين فإذا أسلموا حصل انتفاء فتنتهم وإذا أعدمهم الله فكذلك. وهذه الآية دالة على ما ذهب إليه جمهور علماء الأمة من أن قتال المشركين واجب حتى يسلموا، وأنهم لا تقبل منهم الجزية، ولذلك قال الله تعالى هنا { حتى لا تكون فتنة } ـ وقال في الآية الأخرى ـقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون } التوبة 29. وهي أيضاً دالة على ما رآه المحققون من مؤرخينا من أن قتال المسلمين المشركين إنما كان أوله دفاعاً لأذى المشركين ضعفاء المسلمين، والتضييقِ عليهم حيثما حلوا، فتلك الفتنة التي أشار إليها القرآن ولذلك قال في الآية الأخرىواقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل } البقرة 191. والتعريف في { الدين } للجنس وتقدم الكلام على نظيرها في سورة البقرة، إلاّ أن هذه الآية زيد فيها اسم التأكيد وهو { كله } وذلك لأن هذه الآية أسبق نزولاً من آية البقرة فاحتيج فيها إلى تأكيد مفاد صيغة اختصاص جنس الدين بأنه لله تعالى، لئلا يتوهم الاقتناع بإسلام غالب المشركين فلما تقرر معنى العموم وصار نصاً من هذه الآية عُدل عن إعادته في آية البقرة تطلباً للإيجاز. وقوله { فإن الله بما يعملون بصير } أي عليم كناية عن حسن مجازاته إياهم لأن القادر على نفع أوليائه ومطيعيه لا يحُول بينه وبين إِيصال النفع إليهم الإخفاء حال من يُخلص إليه، فلما أخبروا بأن الله مطلع على انتهائهم عن الكفر إن انتهوا عنه وكان ذلك لا يظن خلافه علم أن المقصود لازم ذلك. وقرأ الجمهور { يعلمون } ـ بياء الغائب ـ وقرأه رُوَيْس عن يعقوب ـ بتاء الخطاب.

السابقالتالي
2