الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }

عطف على قولهوما كان الله ليعذبهم وأنتَ فيهم } الأنفال 33 وهو ارتقاء في بيان أنهم أحقاء بتعذيب الله إياهم، بياناً بالصراحة. و { ما } استفهامية، والاستفهام إنكاري، وهي في محل المبتدأ و { لهم } خبره، واللام للاستحقاق والتقدير ما الذي ثبت لهم لأن ينتفي عنهم عذاب الله فكلمة ما اسم استفهام إنكاري، والمعنى لم يثبت لهم شيء. و { أنْ لا يعذبهم } مجرور بلام جر محذوفة بعد إن على الشائِع من حذف الجر مع أنْ والتقدير أي شيء كان لهم في عدم تعذيبهم أي لم يكن شيء في عدم تعذيبهم أو مِن عدم تعذيبهم أي أنهم لا شيء يمنعهم من العذاب، والمقصود الكناية عن استحقاقهم العذاب وحلوله بهم، أوْ توقع حلوله بهم، تقول العرب مَالك أنْ لا تُكْرِمَ، أي أنت حقيق بأن تكَرم ولا يمنعك من الإكرام شيء، فاللفظ نفي لمانع الفعل، والمقصود أن الفعل توفرت أسبابه ثم انتفت موانعه، فلم يبق ما يحول بينك وبينه. وقد يتركون أن ويقولون مالك لا تفعل فتكون الجملة المنفية بعد الاستفهام في موضع الحال وتكون تلك الحال هي مُثير الاستفهام الإنكاري، وهذا هو المعنى الجاري على الاستعمال. وجوزوا أن تكون { ما } في الآية نافية فيكون { أن لا يعذبهم } اسمها و { لهم } خبرها والتقدير وما عدم التعذيب كائناً لهم. وجملة { وهم يصدون عن المسجد الحرام } في موضع الحال على التقديرين. والصد الصرف، ومفعول { يصدون } محذوف دل عليه السياق، أي يصدون المؤمنين عن المسجد الحرام بقرينة قوله { إنْ أولياؤه إلاّ المتقون } فكان الصد عن المسجد الحرام جريمة عظيمة يستحق فاعلوه عذاب الدنيا قبيل عذاب الآخرة، لأنه يؤول إلى الصد عن التوحيد لأن ذلك المسجد بنَاه مُؤسسه ليكون علَماً على توحيد الله ومأوى للموحدين، فصدهم المسلمين عنه، لأنهم آمنوا بإلٰه واحد، صرف له عن كونه علَماً على التوحيد، إذ صار الموحدون مَعدودين غيرَ أهل لزيادته، فقد جعلوا مضادين له، فلزم أن يكون ذلك المسجد مضاداً للتوحيد وأهلِه، ولذلك عقب بقوله { وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلاّ المتقون } وهذا كقولهومن يُرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ نذقه من عذابٍ أليمٍ } الحج 25، والظلم الشرك لقولهإن الشرك لظلمٌ عظيمٌ } لقمان 13. وهذا الصد الذي ذكرتْه الآية هو عزمهم على صدّ المسلمين المهاجرين عن أن يحجوا ويعْتمروا، ولعلهم أعلنوا بذلك بحيث كان المسلمون لا يدخلون مكة. وفي «الكشاف» «كانوا يقولون نحن وُلاَة البيت والحرم فنصد من نشاء ونُدخل من نشاء». قلت ويشهد لذلك قضية سعد بن معاذ مع أبي جهل ففي «صحيح البخاري» عن عبد الله بن مسعود، أنه حدث عن سعد بن معاذ «أنه كان صديقاً لأمية بن خلف، وكان أمية إذا مرَّ بالمدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا مرَّ بمكة نزل على أمية، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة انطلق سعد معتمراً فنزل على أمية بمكة فقال لأمية انظُرْ لي ساعة خلوة لعليَ أطوف بالبيت فخرج قريباً من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل، فقال يا أبا صفوان مَن كنية أمية بن خلف هذا معك ـ فقال هذا سعد، فقال له أبو جهل ألا أراك تطوف باليبت آمناً وقد آوَيْتُم الصباة أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعتَ إلى أهلك سالماً» الحديث.

السابقالتالي
2 3