الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ }

انتقال إلى ذكر بهتان آخر من حجاج هؤلاء المشركين، لم تزل آيات هذه السورة يتخللها أخبار كفرهم من قولهويقطع دابر الكافرين } الأنفال 7 ـ وقوله ـذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله } الأنفال 13 ـ وقوله ـفلَمْ تقتلوهم ولكن الله قتلهم } الأنفال 17 ـ وقوله ـولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } الأنفال 21 ـ ثم بقوله ـوإذ يمكر بك الذين كفروا } الأنفال 30. وهذه الجمل عطف على جملةولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم } الأنفال 23. وهذا القول مقالة المتصدين للطعن على الرسول صلى الله عليه وسلم ومحاجته، والتشغيب عليه منهم النضر بن الحارث، وطُعمية بن عدي، وعقبة بن أبي مُعَيْط. ومعنى { قد سمعنا } قد فهمنا ما تحتوي عليه، لو نشاء لقلنا مثلها وإنما اهتموا بالقصص ولم يتَبيّنوا مغزاها ولا ما في القرآن من الآداب والحقائق، فلذلك قال الله تعالى عنهمكالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } الأنفال 21 أي لا يفقهون ما سمعوا. ومن عجيب بهتانهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تحدّاهم بمعارضة سورة من القرآن، فعجزوا عن ذلك وأفحموا، ثم اعتذروا بأن ما في القرآن أساطير الأولين وأنهم قادرون على الإتيان بمثل ذلك ـ قيل قائِل ذلك هو النضر بن الحارث من بني عبد الدار، كان رجلاً من مردة قريش ومن المستهزئين، وكان كثيرَ الأسفار إلى الحِيره وإلى أطراف بلاد العجم في تجارته، فكان يلقى بالحِيرة ناساً من العِبَاد بتخفيف الباء اسم طائفة من النصارى فيحدثونه من أخبار الإنجيل ويلقَى من العرب من ينقل أسطورة حروب رُسْتُم وأسْفندياذ من مُلوك الفرس في قصصهم الخُرافي، وإنما كانت تلك الأخبار تترجم للعرب باللسان ويستظهرها قصاصهم وأصحاب النوادر منهم ولم يذكر أحد أن تلك الأخبار كانت مكتوبة بالعربية، فيما أحسب، إلاّ ما وقع في «الكشاف» أن النضر بن الحارث جاء بنسخة من خبر رُستم واسفندياذَ ولا يبعد أن يكون بعض تلك الأخبار مكتوباً بالعربية كتبها القصاصون من أهل الحِيرة والأنبار تذكرة لأنفسهم، وإنما هي أخبار لا حكمة فيها ولا موعظة، وقد أطال فيها الفردوسي في كتاب «الشاهنامه» تطويلاً مُملاً على عادة أهل القصص، وقال الفخر اشترى النضر من الحِيرة أحاديث كليلة ودمنة، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم فيقرأ عليهم أساطير الأولين، فإسناد قول النضر بن الحارث إلى جماعة المشركين من حيث إنهم كانوا يؤيدونه ويَحكونه ويُحاكونه، ويحسبون فيه معذرة لهم عن العجز الذي تلبسوا به في معارضة القرآن، وأنه نفّس عليهم بهذه الأغلوطة، فإذا كان الذي ابتكره هو النضر بن الحارث فليس يمتنع أن تصدر أمثال هذا القول من أمثاله وأتباعه، فمن ضمنهم مجلسه الذي جاء فيه بهذه النزاقة.

السابقالتالي
2