الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

عُطف على الأمر بالاستجابة لله فيما يدعوهم إليه، وعلى إعلامهم بأن الله لا تخفى عليه نياتُهم، وعلى التحذير من فتنة الخلاف على الرسول - صلى الله عليه وسلم - تذكيرُهم بنعمة الله عليهم بالعزة والنصر، بعد الضعف والقلة والخوف، ليذكروا كيف يسر الله لهم أسباب النصر من غير مظانها، حتى أوصلهم إلى مكافحة عدوهم وأن يتقيَ أعداؤُهم بأسَهم، فكيف لا يستجيبون لله فيما بعد ذلك، وهم قد كثروا وعزوا وانتصروا، فالخطاب للمؤمنين يومئذٍ، ومجيء هذه الخطابات بعد وصفهم بالذين آمنوا إيماء إلى أن الإيمان هو الذي ساقَ لهم هذه الخيرات كلها، وأنه سيكون هذا أثَرَه فيهم كلما احتفظوا عليه كُفُوه من قبلِ سُؤالهم، ومن قبل تسديد حالهم، فكيف لا يكونون بعد ترفّه حالهم أشد استجابة وأثبت قلوباً. وفعل { واذكروا } مشتق من الذكر ـ بضم الدال ـ وهو التذكر لا ذكر اللسان، أي تَذَكروا. و { إذْ } اسم زمان مجرد عن الظرفية، فهو منصوب على المفعول به، أي اذكروا زمن كنتم قليلاً. وجملة { أنتم قليل } مضاف إليها { إذْ } ليحصل تعريف المضاف، وجيء بالجملة اسمية للدلالة على ثبات وصف القلة والاستضعاف فيهم. وأخبر بـ { قليل } وهو مفرد عن ضمير الجماعة لأن قليلاً وكثيراً قد يجيئان غير مطابقين لما جريا عليه، كما تقدم عند قوله تعالىمعه ربيون كثيرٌ } في سورة آل عمران 146. والأرض يراد بها الدنيا كما تقدم عند قوله تعالىولا تفسدوا في الأرض } في سورة الأعراف 56 فالتعريف شبيه بتعريف الجنس، أو أريد بها أرض مكة، فالتعريف للعهد، والمعنى تذكير المؤمنين بأيام إقامتهم بمكة قليلاً مستضعفين بين المشركين، فإنهم كانوا حينئذٍ طائفة قليلة العدد قد جفاهم قومهم وعادوهم فصاروا لا قوم لهم وكانوا على دين لا يعرفه أحد من أهل العالم فلا يطمعون في نصرِ موافق لهم في دينهم وإذا كانوا كذلك وهم في مكة فهم كذلك في غيرها من الأرض فآواهم الله بأن صرف أهل مكة عن استيصالهم ثم بأن قيّض الأنصار أهلَ العقبة الأولى وأهلَ العقبة الثانية، فأسْلموا وصاروا أنصاراً لهم بيثرب، ثم أخرجهم من مكة إلى بلاد الحبشة فئاواهم بها، ثم أمرهم بالهجرة إلى يثرب فئاواهم بها، ثم صار جميع المؤمنين بها أعداء للمشركين فنصرهم هنالك على المشركين يوم بدر، فالله الذي يسّر لهم ذلك كله قبل أن يكون لهم فيه كسب أو تعمّل، أفلا يكون ناصراً لهم بعد أن ازدادوا وعزوا وسعَوا للنصر بأسبابه، وأفلا يستجيبونهم له إذا دعاهم لما يحييهم وحالهم أقرب إلى النصر منها يوم كانوا قليلاً مستضعفين. والتخطف شدة الخطف، والخطف الأخذ بسرعة، وقد تقدم عند قوله تعالىيكاد البرق يخطف أبصارهم }

السابقالتالي
2