لما أراهم الله آيات لطفه وعنايته بهم، ورأوا فوائِد امتثال أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالخروج إلى بدر، وقد كانوا كارهين الخروج، أعقب ذلك بأنْ أمَرَهم بطاعة الله ورسوله شكراً على نعمة النصر، واعتباراً بأن ما يأمرهم به خيرٌ عواقبه، وحذرهم من مخالفة أمر الله ورسولهِ - صلى الله عليه وسلم -. وفي هذا رجوع إلى الأمر بالطاعة الذي افتتحت به السورة في قوله{ وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } الأنفال 1 رجوع الخطيب إلى مقدمة كلامه ودليلهِ ليأخذها بعد الاستدلال في صورة نتيجة أسفر عنها احتجاجُه، لأن مطلوب القياس هو عين النتيجة، فإنه لما ابتدأ فأمرهم بطاعة الله ورسوله بقوله{ وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } الأنفال 1 في سياق ترجيح ما أمرهم به الرسول - عليه الصلاة والسلام - على ما تهواه أنفسهم، وضرب لهم مثلاً لذلك بحادثة كراهتهم الخروج إلى بدر في بدء الأمر ومجادلتهم للرغبة في عدمه، ثم حادثة اختيارهم لقاء العير دون لقاء النفير خشية الهزيمة، وما نجم عن طاعتهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - ومخالفتهم هواهم ذلك من النصر العظيم والغُنم الوفير لهم مع نزارة الرزء، ومن التأييد المبين للرسول - صلى الله عليه وسلم - والتأسيسِ لإقرار دينه{ ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل } الأنفال 7، 8 وكيف أمدهم الله بالنصر العجيب لمّا أطاعوه وانخلعوا عن هواهم، وكيف هزَم المشركين لأنهم شاقوا الله ورسوله، والمشاقة ضد الطاعة تعريضاً للمسلمين بوجوب التبرؤ مما فيه شائبة عصيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم أمرهم بأمر شديد على النفوس ألا وهو{ إِذَا لقيتم الذين كفروا زحْفاً فلا تولوهم الأدبار } الأنفال 15 وأظهر لهم ما كان من عجيب النصر لما ثبتوا كما أمرهم الله{ فلَمْ تقتلوهم ولكن الله قتلهم } الأنفال 17، وضمن لهم النصر إن هم أطاعوا الله ورسوله وطلبوا من الله النصر، أعقب ذلك بإعادة أمرهم بأن يطيعوا الله ورسوله ولا يتولوا عنه، فذلكة للمقصود من الموعظة الواقعة بطولها عقب قوله{ وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } الأنفال 1 وذلك كله يقتضي فصل الجملة عما قبلها، ولذلك افتتحت بـ { يا أيها الذين آمنوا }. وافتتاح الخطاب بالنداء للاهتمام بما سيُلقى إلى المخاطبين قصداً لإحضار الذهن لوعي ما سيقال لهم، فنزّل الحاضر منزلة البعيد، فطلب حضوره بحرف النداء الموضوع لطلب الإقبال. والتعريف بالموصولية في قوله { يا أيها الذين آمنوا } للتنبيه على أن الموصوفين بهذه الصلة من شأنهم أن يتقبلوا ما سيؤمرون به، وأنه كما كان الشرك مسبباً لمشاقة لله ورسوله في قوله{ ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله } الأنفال 13، فخليق بالإيمان أن يكون باعثاً على طاعة الله ورسوله، فقوله هنا { يأيها الذين آمنوا } يساوي قوله في الآية المردود إليها