الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }

{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }. موقع هذه الجملة وما عطف عليها موقع التعليل لوجوب تقوى الله وإصلاح ذات بينهم وطاعتهم الله ورسوله، لأن ما تضمنته هذه الجمل التي بعد { إنما } من شأنه أن يحمل المتصفين به على الامتثال لما تضمنته جُمل الأمر الثلاث السابقة، وقد اقتضى ظاهر القصر المستفاد من { إنما } أن من لم يَجلْ قلبُه إذا ذُكر الله، ولم تزده تلاوة آيات الله إيماناً مع إيمانه، ولم يتوكل على الله، ولم يقم الصلاة، ولم ينفق، لم يكن موصوفاً بصفة الإيمان، فهذا ظاهرٌ مؤول بما دلت عليه أدلة كثيرة من الكتاب والسنة من أن الإيمان لاَ ينقضه الإخلال ببعض الواجبات كما سيأتي عند قوله تعالىأولئك هم المؤمنون حقاً } الأنفال 4 فتعين أن القصر ادعائي بتنزيل الإيمان الذي عَدم الواجبات العظيمةَ منزلة العدم، وهو قصر مجازي لابتنائه على التشبيه، فهو استعارة مكنية شبه الجانب المنفي في صيغة القصر بمن ليس بمؤمن، وطوي ذكر المشبه به ورُمز إليه بذكر لازمه وهو حَصْر الإيمان فيمن اتصف بالصفات التي لم يتصف بها المشبه به، ويئول هذا إلى معنى إنما المؤمنون الكاملُو الإيمانِ، فالتعريف في { إنما المؤمنون } تعريف الجنس المفيد قصراً ادعائياً على أصحاب هذه الصفات مبالغة، وحرف أل فيه هو ما يسمى بالدالة على معنى الكمال. وقد تكون جملة { إنما المؤمنون } مستأنفة استينافاً بيانياً لجواب سؤال سائِل يثيره الشرطُ وجزاؤه المقدرُ في قولهإن كنتم مؤمنين } الأنفال 1 بأن يتساءلوا عن هذا الاشتراط بعد ما تحقق أنهم مؤمنون من قبل، وهل يمتري في أنهم مؤمنون، فيجابوا بأن المؤمنين هم الذين صفتهم كيت وكيت، فيعلموا أن الإيمان المجعول شرطاً هو الإيمان الكامل فتنبعث نفوسهم إلى الاتسام به والتباعد عن موانع زيادته. وإذ قد كان الاحتمالان غير متنافيين صح تحميل الآية إياهما توفيراً لمعاني الكلام المعجز فإن علة الشيء مما يُسأل عنه، وإن بيان العلة مما يصح كونه استينافاً بيانياً. وعلى كلا الاحتمالين وقعت الجملة مفصولة عن التي قبلها لاستغنائها عن الربط وإن اختلف موجب الاستغناء باختلاف الاحتمالين، والاعتباراتُ البلاغية يصح تعدد أسبابها في الموقع الواحد لأنها اعتبارات معنوية وليست كيفيات لفظية فتحقَّقْه حق تحقُّقه. والمعنى ليس المؤمنون الكامل إيمانهم إلا أصحاب هذه الصلة التي يعرف المتصف بها تحققها فيه أو عدمه من عرض نفسه على حقيقتها، فإنه لما كان الكلام وارداً مورد الأمر بالتخلق بما يقتضيه الإيمان أحيلوا في معرفة أمارات هذا التخلق على صفات يأنسونها من أنفسهم إذا علموها. والذكر حقيقته التلفظ باللسان، وإذا علق بما يدل على ذات فالمقصود من الذات أسماؤها، فالمراد من قوله { إذا ذكر الله } إذا نطق ناطق باسم من أسماء الله أو بشأن من شؤونه، مثل أمره ونهيه، لأن ذلك لا بد معه من جريان اسمه أو ضميره أو موصوله أو إشارته أو نحو ذلك من دلائل ذاته.

السابقالتالي
2 3 4