الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ }. الأظهر أن الفاء فصيحة ناشئة عن جملةإذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم } الأنفال 12 تفصح عن مقدر قبلها شرط أو غيره ـ والأكثر أن يكون شرطاً فتكون رابطة لجوابه، والتقدير هنا إذا علمتم أن الله أوحى إلى الملائكة بضرب أعناق المشركين وقَطْع إيديهم فلَمْ تقتلوهم أنتم ولكن الله قتلهم أي فقد تبين أنكم لم تقتلوهم أنتم، وإلى هذا يشير كلام صاحب «الكشاف» هنا وتبعه صاحب «المفتاح» في آخر باب النهي. ويجوز أن تكون الفاء عاطفة على جملةيا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار } الأنفال 15 أي يتفرع على النهي عن أن تولوا المشركين الأدبار تنبيهكم إلى أن الله هو الذي دفع المشركين عنكم وأنتم أقل منهم عَددا وعُدة، والتفريع بالفاء تفريع العلة على المعلول، فإن كون قتل المشركين ورميهم حاصلاً من الله لأمن المسلمين يفيد تعليلاً وتوجيهاً لنهيهم عن أن يولوهم الأدبار. ولأَمْرهم الصبر والثبات وهو تعريض بضمان تأييد الله إياهم إن امتثلوا لقولهواصبروا إن الله مع الصابرين } الأنفال 46 فإنهم إذا امتثلوا ما أمرهم الله كان الله ناصرهم، وذلك يؤكد الوعيد على تولية الأدبار، لأنه يقطع عذر المتولين والفارين، ولذلك قال الله تعالى في وقعة أحدإن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمْعانِ إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } آل عمران 155. وإذ قد تضمنت الجملة إخباراً عن حالة أفعال فعلها المخاطبون، كان المقصود اعلامهم بنفي ما يظنونه من أن حصول قتل المشركين يوم بدر كان بأسباب ضَرب سيوف المسلمين، فأنباهم أن تلك السيوف ما كان يحق لها أن تؤثر ذلك التأثير المصيب المطرد العام الذي حل بإبطال ذوي شجاعة، وذوي شوكة وشِكّة، وإنما كان ضرب سيوف المسلمين صورياً، أكرم الله المسلمين بمقارنته فعلَ الله تعالى الخارقَ للعادة، فالمنفي هو الضرب الكائنُ سببَ القتل في العادة، وبذلك كان القتل الحاصل يومئذٍ معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم وكرامة لأصحابه، وليس المنفي تأثير الضرب في نفس الأمر بناء على القضاء والقدر، لأنه لو كان ذلك لم يكن للقتل الحاصل يوم بدر مزية على أي قتل يقع بالحق أو بالباطل، في جاهلية أو إسلام، وذلك سياق الآية الذي هو تكريم المسلمين وتعليل نهيهم عن الفرار إذا لقوا. وليس السياق لتعليم العقيدة الحق. وأصل الخبر المنفي أن يدل على انتفاء صدور المسند عن المسند إليه، لا أن يدل على انتفاء وقوع المسند أصلاً فلذلك صح النفي في قوله { فلم تقتلوهم } مع كون القتل حاصلاً، وإنما المنفي كونه صادراً عن أسبابهم. ووجه الاستدراك المفاد بـ { لكن } أن الخبر نفى أن يكون القتل الواقع صادراً عن المخاطبين فكانَ السامعُ بحيث يتطلب أكان القتلُ حقيقة أم هو دون القتل، ومَن كان فاعلاً له، فاحتيج إلى الاستدراك بقوله { ولكن الله قتلهم }.

السابقالتالي
2 3