الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ } * { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }

لمّا ذكَّرَ الله المسلمين بما أيدهم يوم بدر بالملائكة والنصر من عنده، وأكرمهم بأن نصرهم على المشركين الذين كانوا أشد منهم وأكثر عدَداً وعُدداً، وأعقبه بأن أعلمهم أن ذلك شأنه مع الكافرين به اعترض في خلال ذلك بتحذيرهم من الوهن والقرار، فالجملة معترضة بين جملةإذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم } الأنفال 12 وبين جملةفلم تقتلوهم } الأنفال 17 الآية وفي هذا تدريب للمسلمين على الشجاعة والإقدام والثبات عند اللقاء، وهي خطة محمودة عند العرب لم يزدها الإسلام إلاّ تقوية، قال الحُصين بن الحُمَام
تأَخَرْتُ أستبقي الحياةَ فلم أجد لنفسي حياةً مثلَ أنْ أتَقَدَّما   
وقد قيل إن هذه الآية نزلت في قتال بدر، ولعل مراد هذا القائل أن حكمها نزل يوم بدر ثم أثبتت في سورة الأنفال النازلة بعد الملحمة، أو أراد أنها نزلت قبل الآيات التي صدّرت بها سورة الأنفال ثم رتبت في التلاوة في مكانها هذا، والصحيح أنها نزلتْ بعد وقعة بدر كما سيأتي. واللقاء غلب استعماله في كلامهم على مناجزة العدو في الحرب. فالجملة استئناف ابتدائي، والمناسبة واضحة، وسيأتي عند قوله تعالىيا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثْبُتُوا } في هذه السورة 45، وأصل اللقاء أنه الحضور لدى الغير. والزحْف أصله مصدر زَحَف من باب منع، إذا انبعث من مكانه متنقلاً على مقعدته يجررِ جيله كما يزحف الصبي. ثم أطلق على مشي المقاتل إلي عدوه في ساحة القتال زَحفٌ لأنه يدنو إلى العدو باحتراس وترصد فرصة، فكأنه يزحف إليه. ويطلق الزحف على الجيش الدهْم، أي الكثير عددِ الرجال، لأنه لكثرة الناس فيه يثقل تنقله فوصف بالمصدر، ثم غلب إطلاقه حتى صار معنى من معاني الزحف ويجمع على زُحوف. وقد اختلفت طرق المفسرين في تفسير المراد من لفظ زحفاً } في هذه الآية فمنهم من فسره بالمعنى المصدري أي المشي في الحرْب وجلعه وصفاً لتلاحم الجيشين عند القتال، لأن المقاتلين يدبون إلى أقرانهم دبيباً، ومنهم من فسره بمعنى الجيش الدهْم الكثير العدد، وجعله وصفاً لذات الجيش. وعلى كلا التقديرين فهو إما حال من ضمير { لقيتم } وإما من { الذين كفروا } ، فعلى التفسير الأول هو نهي عن الانصراف من القتال فراراً إذا التحم الجيشان، سواء جَعلتَ زحفاً حالاً من ضمير { لقيتم } أو من { الذين كفروا } ، لأن مشي أحد الجيشين يستلزم مشي الآخر. وعلى التفسير الثاني فإن جعل حالاً من ضمير لقيتم كان نهياً عن الفرار إذا كان المسلمون جيشاً كثيراً، ومفهومه أنهم إذا كانوا قلة فلا نهي، وهذا المفهوم مجمل يبينه قوله تعالىإن يكن منكم عشرون صابرون } الأنفال 65 إلىمع الصابرين } الأنفال 66، وإن جعل حالاً من { الذين كفروا } كان المعنى إذا لقيتموهم وهم كثيرون فلا تفروا، فيفيد النهي عن الفرار إذا كان الكفار قلة بفحوى الخطاب، ويؤول إلى معنى لا تُولوهم الأدبار في كل حال.

السابقالتالي
2 3 4 5 6