الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } * { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }

{ إذ } ظرف متعلق بقولهفاستجاب لكم أني ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين } الأنفال 9. وجعل الخطاب هنا للنبيء صلى الله عليه وسلم تلطفاً به، إذ كانت هذه الآية في تفصيل عمل الملائكة يوم بدر، وما خاطبهم الله به فكان توجيه الخطاب بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولى لأنه أحق من يعلم مثل هذا العلم ويحصل العلم للمسلمين تبعاً له، وأن الذي يهم المسلمين من ذلك هو نصر الملائكة إياهم وقد حصل الإعلام بذلك من آيةإذ تستغيثون ربكم } الأنفال 9 ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول من استغاث الله، ولذلك عرف الله هنا باسم الرب وإضافته إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ليوافق أسلوبإذ تستغيثون ربكم } الأنفال 9 ولما فيه من التنويه بقدر نبيه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه فعل ذلك لطفاً به ورفعاً لشأنه. والوحي إلى الملائكة المرسلين إما بطريق إلقاء هذا الأمر في نفوسهم بتكوين خاص، وإما بإبلاغهم ذلك بواسطة. و { أنّي معكم } قيل هو في تأويل مصدر وذلك المصدر مفعول يوحي، أي يوحي إليهم ثبوتَ معيّتِه لهم، فيكون المصدر، منصوباً على المفعول به ليوحي، بهذا التأويل وقيل على تقدير باء الجر. وأنت على ذُكْر مما قدمناه قريباً في قوله تعالىأني ممدكم بألفٍ من الملائكة } الأنفال 9 من تحقيق أن تكون أن المفتوحة الهمزةِ المشددة النوننِ مفيدة معنى أنْ التفسيرية، إذا وقعت معمولة لما فيه معنى القول دون حروفه. والمعية حقيقتها هنا مستحيلة فتحمل على اللائِقة بالله تعالى أعني المعية المجازية، فقد يَكون معناها توجه عنايته إليهم وتيسير العمل لهم، وقد تكرر إطلاق مع بمثل هذا في القرآن كقولهوهْو مَعكم أينما كنتم } الحديد 4. وإيحاء الله إلى الملائكة بهذا مقصود منه تشريفهم وتشريف العمل الذي سيكلفون به، لأن المعية تؤذن إجمالاً بوجود شيء يستدعي المصاحبة، فكان قوله لهم { أني معكم } مقدمة للتكليف بعمل شريف ولذلك يذكْر ما تتعلق به المعية لأنه سيعلم من بقية الكلام، أي أني معكم في عملكم الذي أكفلكم به. ومن هنا ظهر موقع فَاء الترتيب في قوله { فثبتوا الذين آمنوا } من حيث ما دل عليه { أني معكم } من التهيئة لتلقي التكليف بعمل عظيم وإنما كان هذا العمل بهذه المثابة لأنه إبدال للحقائق الثابتة باقتلاعها ووضع أضدادها لأنه يجعل الجبن شجاعة، والخوف إقداماً والهلع ثباتاً، في جانب المؤمنين، ويجعل العزة رعباً في قلوب المشركين، ويقطع أعناقهم وأيديهم بدون سَبب من أسباب القطع المعتادة فكانت الأعمال التي عُهد للملائكة عملُها خوارقَ عادات. والتثبيت هنا مجاز في إزالة الاضطراب النفساني مما ينشأ عن الخوف ومن عدم استقرار الرأي واطمئنانه. وعُرف المثبتُون بالموصول لما تومىء إليه صلة { آمنوا } من كون إيمانهم هو الباعث على هذه العناية، فتكون الملائكة بعناية المؤمنين لأجل وصف الإيمان.

السابقالتالي
2 3