الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا } * { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَٰهَا } * { إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَٰهَآ } * { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَٰهَا }

استئناف بياني منشؤه أن المشركين كانوا يسألون عن وقت حلول الساعة التي يتوعدهم بها النبي صلى الله عليه وسلم كما حكاه الله عنهم غير مرة في القرآن كقولهويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } يونس 48. وكان سؤالهم استهزاء واستخفافاً لأنهم عقدوا قلوبهم على استحالة وقوع الساعة وربما طلبوا التعجيل بوقوعها وأوهموا أنفسهم وأشياعهم أن تأخر وقوعها دليل على اليأس منها لأنهم يتوهمون أنهم إذا فعلوا ذلك مع الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان صادقاً لحَمِي غضب الله مُرسِله سبحانه فبادر بإراءتهم العذاب وهم يتوهمون شؤون الخالق كشؤون الناس إذا غضب أحدهم عجَّل بالانتقام طيشاً وحنقاً قال تعالىلو يؤاخذهم بما كسبوا لعَجّل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً } الكهف 58. فلا جرم لما قُضي حق الاستدلال على إمكان البعث بإقامة الدليل وضرب الأمثال، وعرض بعقاب الذين استحقوا بها في قولهفإذا جاءت الطامة الكبرى } النازعات 34، كان ذلك مثاراً لسؤالهم أن يقولوا هل لمجيء هذه الطامة الكبرى وقت معلوم؟ فكان الحال مقتضياً هذا الاستئناف البياني قضاء لحق المقام وجواباً عن سابق الكلام. فضمير «يسألون» عائد إلى المشركين أصحاب القلوب الواجفة والذين قالواأإنا لمردودون في الحافرة } النازعات 10. وحكي فعل السؤال بصيغة المضارع للدلالة على تجدد هذا السؤال وتكرره. والساعة هي الطامة فذكر الساعة إظهار في مقام الإِضمار لقصد استقلال الجملة بمدلولها مع تفنن في التعبير عنها بهذين الاسمينالطامة } النازعات 34 و { الساعة }. و { أيان مرساها } جملة مبينة للسؤال. و { أيّان } اسم يستفهم به عن تعيين الوقت. والاستفهام مستعمل في الاستبعاد كنايةً وهو أيضاً كناية عن الاستحالة و { مُرساها } مصدر ميمي لفعل أرسى، والإِرساء جعل السفينة عند الشاطىء لقصد النزول منها. واستعير الإِرساء للوقوع والحصول تشبيهاً للأمر المغيَّب حصوله بسفينة ماخرة البحر لا يُعرف وصولها إلا إذا رسَتْ، وعليه فــــ { أيّان } ترشيح للاستعارة، وتقدم نظير هذه في سورة الأعراف. وقوله { فيم أنت من ذكراها } واقع موقع الجواب عن سؤالهم عن الساعة باعتبار ما يظهر من حال سؤالهم عن الساعة من إرادة تعيين وقتها وصرف النظر عن إرادتهم به الاستهزاء، فهذا الجواب من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، وهو من تلقي السائل بغير ما يتطلب تنبيهاً له على أن الأولى به أن يهتم بغير ذلك، وهو مضمون قوله { إنما أنت منذر من يخشاها }. وهذا ما يسمى بالأسلوب الحكيم، ونظيره ما روي في الصحيح " أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال له «ماذا أعْدَدْتَ لها؟» " ، أي كان الأولى لك أن تصرف عنايتك إلى الاستكثار من الحسنات إعداداً ليوم الساعة. والخطاب وإن كان موجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالمقصود بلوغه إلى مسامع المشركين فلذلك اعتبر اعتبارَ جواب عن كلامهم وذلك مقتضى فصل الجملة عن التي قبلها شأن الجواب والسؤال.

السابقالتالي
2 3