الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا } * { رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } * { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا }

انتقال من الاعتبار بأمثالهم من الأمم الذي هو تخويف وتهديد على تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إبطال شبهتهم على نفي البعث وهي قولهأإنا لمردودون في الحافرة } النازعات 10 وما أعقبوه به من التهكم المبني على توهم إحالة البعث. وإذ قد فرضوا استحالة عود الحياة إلى الأجسام البالية إذ مثلوها بأجساد أنفسهم إذ قالواأإنَّا لمردودون } النازعات 10 جاء إبطال شبهتهم بقياس خلق أجسادهم على خلق السماوات والأرض فقيل لهم { أأنتم أشد خلقاً أم السماء } ، فلذلك قيل لهم هنا أأنتم بضميرهم ولم يقل آالإِنسان أشدّ خلقاً، وما هم إلا من الإِنسان، فالخطاب موجه إلى المشركين الذين عبر عنهم آنفاً بضمائر الغيبة من قولهيقولون } النازعات 10 إلى قولهفإذا هم بالساهرة } النازعات 14، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب. فالجملة مستأنفة لقصد الجواب عن شبهتهم لأن حكاية شبهتهم بــــ { يقولون أإنا } إلى آخره، تقتضي ترقب جواب عن ذلك القول كما تقدم الإِيماء إليه عند قولهيقولون أَإنَّا لمردودون } النازعات 10. والاستفهام تقريري، والمقصود من التقرير إلجاؤهم إلى الإِقرار بأنّ خلق السماء أعظم من خلقهم، أي مِن خلق نوعهم وهو نوع الإِنسان وهم يعلمون أن الله هو خالق السماء فلا جرم أن الذي قدر على خلق السماء قادر على خلق الإِنسان مرة ثانية، فينتج ذلك أن إعادة خلق الأجساد بعد فنائها مقدورة لله تعالى لأنه قدَر على ما هو أعظم من ذلك قال تعالىلخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون } غافر 57، ذلك أن نظرهم العقلي غيَّمت عليه العادة فجعلوا ما لم يألفوه مُحالاً، ولم يلتفتوا إلى إمكان ما هو أعظم مما أحالوه بالضرورة. و { أشد } اسم تفضيل، والمفضل عليه محذوف يدل عليه قوله { أم السماء }. ومعنى { أشد } أصعب، و { خلقاً } مصدر منتصب على التمييز لنسبة الأشدّية إليهم، أي أشد من جهة خلق الله إياكم أشد أم خلقه السماء، فالتمييز مُحوّل عن المبتدأ. و { السماء } يجوز أن يراد به الجنس وتعريفه تعريف الجنس، أي السماوات وهي محجوبة عن مشاهدة الناس فيكون الاستفهام التقريري مبنياً على ما هو مشتهر بين الناس من عظمة السماوات تنزيلاً للمعقول منزل المحسوس. ويجوز أن يراد به سماء معينة وهي المسماة بالسماء الدنيا التي تلوح فيها أضواء النجوم فتعريفه تعريف العهد، وهي الكرة الفضائية المحيطة بالأرض ويَبدو فيها ضوء النهار وظلمةُ الليل، فيكون الاستفهام التقريري مبنياً على ما هو مشاهد لهم. وهذا أنسب بقوله { وأغطَشَ ليلَها وأخرج ضحاها } لعدم احتياجه إلى التأويل. وجملة { بناها } يجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان شدة خلق السماء، ويجوز أن تكون بدل اشتمال في قوله { أم السماء } ، لأنه في تقدير أم السماء أشد خلقاً.

السابقالتالي
2