الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } * { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } * { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً }

خصص الإِطَعام بالذكر لما في إطعام المحتاج من إيثاره على النفس كما أفاد قوله { على حبه }. والتصريح بلفظ الطعام مع أنه معلوم من فعل { يطعمون } توطئةٌ ليبنى عليه الحال وهو { على حبه } فإنه لو قيل ويطعمون مسكيناً ويتيماً وأسيراً لفات ما في قوله { على حبه } من معنى إيثار المحاويج على النفس، على أن ذكر الطعام بعد { يطعمون } يفيد تأكيداً مع استحضار هيئة الإِطعام حتى كأنَّ السامع يشاهد الهيئة. و { على حبه } في موضع الحال من ضمير { يطعمون }. و { على } بمعنى مع، وضمير { حبه } راجع للطعام، أي يطعمون الطعام مصحوباً بحبه، أي مصاحباً لحبهم إياه وحب الطعام هو اشتهاؤه. فالمعنى أنهم يطعمون طعاماً هم محتاجون إليه. ومجيء { على } بمعنى مع ناشىء عن تمَجز في الاستعلاء، وصورته أن مجرور حرف { على } في مثله أفضل من معمول متعلقها فنزل منزلة المعتلي عليه. والمسكين المحتاج. واليتيم فاقد الأب وهو مظنة الحاجة لأن أحوال العرب كانت قائمة على اكتساب الأب للعائلة بكدحه فإذا فُقد الأب تعرضت العائلة للخصاصة. وأما الأسير فإذ قد كانت السورة كلها مكية قبل عِزّة المسلمين، فالمراد بالأسير العبد من المسلمين إذ كان المشركون قد أجاعوا عبيدهم الذين أسلموا مثل بلال وعمار وأمه وربما سيَّبوا بعضهم إذا أضجرهُم تعذيبهم وتركوهم بلا نفقة. والعبودية تنشأ من الأسر فالعبد أسير ولذلك يقال له العاني أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم " فُكّوا العاني " وقال عن النساء " إنهن عَوانٍ عندكم " على طريقة التشبيه وقال سحيم عبد بني الحسحاس
رأتْ قَتَباً رَثّاً وسَحْق عِمامةٍ وأسْودَ هِمّاً يُنكِرُ الناسُ عَانِيا   
يريد عبداً. وذكر القرطبي عن الثعلبي قال أبو سعيد الخدري «قرأ رسول الله { ويطعمون الطعام على حُبّهِ مسكيناً ويتيماً وأسيراً } فقال المسكينُ الفقير، واليتيم الذي لا أب له، والأسير المملوك والمسجون». ولم أقف على سند هذا الحديث. وبهذا تعلم أن لا شاهد في هذه الآية لجعل السورة نزلت بالمدينة وفي الأسارى الذين كانوا في أسر المسلمين في غزوة بدر. وجُملة { إنما نطعمكم لوجه الله } إلى آخرها مقول قول محذوف تقديره يقولون لهم، أي للذين يُطعمونهم فهو في موضع الحال من ضمير { يُطعمون } ، وجملة { لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً } مبيِّنة لمضمون جملة { إنما نطعمكم لوجه الله }. وجملة { إنا نخاف من ربنا } إلى آخرها واقعة موقع التعليل لمضمون جملة { لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً }. والمعنى إنهم يقولون ذلك لهم تأنيساً لهم ودفعاً لانكسار النفس الحاصل عند الإِطعام، أي ما نطعمكم إلاّ استجابة لما أمر الله، فالمطعم لهم هو الله. فالقول قول باللسان، وهم ما يقولونه إلاّ وهو مضمر في نفوسهم.

السابقالتالي
2 3