الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً }

تعليل للنهي عن إطاعتهم في قولهولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } الإنسان 24، أي لأن خلقهم الانصباب على الدنيا مع الإِعراض عن الآخرة إذ هم لا يؤمنون بالبعث فلو أعطاهم لتخلق بخلقهم قال تعالىودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء } الآية النساء 89. فموقع { إنّ } موقع التعليل وهي بمنزلة فاء السببية كما نبه عليه الشيخ عبد القاهر. و { هؤلاء } إشارة إلى حاضرين في ذهن المخاطب لكثرة الحديث عنهم، وقد استقريْتُ من القرآن أنه إذا أطلق { هؤلاء } دون سبْقِ ما يكون مشاراً إليه فالمقصود به المشركون، وقد ذكرتُ ذلك في تفسير قوله تعالىفإن يكفر بها هؤلاء فقد وكَّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } في سورة الأنعام 89 وقوله تعالىفلا تكُ في مرية مما يعبد هؤلاء } في سورة هود 109. وقد تنزه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن محبة الدنيا فقال " ما لي وللدنيا " فليس له محبة لأمورها عدا النساء والطيب كما قال " حُبِّب إليّ مِن دنياكم النساء والطيب " فأما النساء فالميل إليهن مركوز في طبع الذكور، وما بالطبع لا يتخلف، وفي الأنس بهن انتعاش للروح فتناوله محمود إذا وقع على الوجه المبَرَّأ من الإِيقاع في فساد ومَا هو الأمثل تناول الطعام وشرب الماء قال تعالىولقد أرسلنا رُسُلاً مِن قبلك وجعلْنا لهم أزواجاً وذُرِّية } الرعد 38. وأما الطيب فلأنه مناسب للتزكية النفسية. وصيغة المضارع في { يحبّون } تدل على تكرر ذلك، أي أن ذلك دأبهم وديدنهم لا يشاركون مع حب العاجلة حب الآخرة. و { العاجلة } صفة لموصوف محذوف معلوم من المقام تقديره الحياة العاجلة، أو الدار العاجلة. والمراد بها مدة الحياة الدنيا. وكثر في القرآن إطلاق العاجلة على الدنيا كقولهكلا بل تُحِبُّون العاجلة وتَذرُون الآخرة } القيامة 20، 21 فشاع بين المسلمين تسمية الدنيا بالعاجلة. ومتعلّق { يحبّون } مضافٌ محذوف، تقديره نعيمَ أو منافعَ لأن الحب لا يتعلق بذات الدنيا. وفي إيثار ذكر الدنيا بوصف العاجلة توطئة للمقصود من الذم لأن وصف العاجلة يؤذن بأنهم آثروها لأنها عاجلة. وفي ذلك تعريض بتحميقهم إذ رضُوا بالدون لأنه عاجل وليس ذلك من شيم أهل التبصر، فقوله { ويذرون ورآءهم يوماً ثقيلاً } واقع موقع التكميل لمناط ذمهم وتحميقهم لأنهم لوْ أحبُّوا الدنيا مع الاستعداد للآخرة لما كانوا مذمومين قال تعالى حكاية لقول الناصحين لقارونوابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا } القصص 77. وهذا نظير قوله تعالىيعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون } الروم 7 إذ كان مناط الذم فيه هو أن قصروا أنفسهم على علم أمور الدنيا مع الإِعراض عن العلم بالآخرة.

السابقالتالي
2