الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } * { وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ } * { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } * { بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ }

افتتاح السورة بالقسم مؤذن بأن ما سيذكر بعده أمر مهم لتستشرف به نفس السامع كما تقدم في عدة مواضع من أقسام القرآن. وكونُ القَسَم بيوم القيامة براعةُ استهلال لأن غرض السورة وصف بيوم القيامة. وفيه أيضاً كون المقسَم به هو المقسَم على أحواله تنبيهاً على زيادة مكانته عند المُقسِم كقول أبي تمام
وثَنايَاك إِنَّها اِغرِيضُ ولآَلٍ تُؤْمٌ وبَرْقٌ ومِيضُ   
كما تقدم عند قوله تعالىحم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربياً } في سورة الزخرف 1- 3. وصيغة { لا أقسم } صيغة قسم، أدخل حرف النفي على فعل { أقسم } لقصد المبالغة في تحقيق حُرْمة المقسَم به بحيث يُوهِم للسامع أن المتكلم يهم أن يقسم به ثم يترك القسم مخافة الحنث بالمقسم به فيقول لا أقسم به، أي ولا أقسم بأعزَّ منه عندي، وذلك كناية عن تأكيد القَسم وتقدم عند قوله تعالىفلا أقسم بمواقع النجوم } في سورة الواقعة 75. وفيه محسن بديعي من قبيل ما يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم. وهذا لم نذكره فيما مضى ولم يذكره أحد. والقسم { بيوم القيامة } باعتباره ظرفاً لما يجري فيه من عدل الله وإفاضة فضله وما يحضره من الملائكة والنفوس المباركة. وتقدم الكلام على { يوم القيامة } غير مرة منها قوله تعالىويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } في سورة البقرة 85. وجواب القسم يؤخذ من قوله { أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه } لأنه دليل الجواب إذ التقدير لنجمعن عظام الإِنسان أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه. وفي «الكشاف» «قالوا إنه أي لا أقسم في الإِمام بغير ألف» وتبرأ منه بلفظ قالوا لأنه مخالف للموجود في المصاحف. وقد نسب إلى البزي عن ابن كثير أنه قرأ { لأقسم } الأول دون ألف وهي رواية عنه ذكرها الشيخ علي النوري في «غيث النفع» ولم يذكرها الشاطبي. واقتصر ابن عطية على نسبتها إلى ابن كثير دون تقييد، فتكون اللام لامَ قسم. والمشهور عن ابن كثير خلاف ذلك، وعطف قوله { ولا أقسم } تأكيداً للجملة المعطوف عليها، وتعريف { النفس } تعريف الجنس، أي الأنفس اللوامة. والمراد نفوس المؤمنين. ووصفُ { اللوامة } مبالغة لأنها تُكثر لوم صاحبها على التقصير في التقوى والطاعة. وهذا اللوم هو المعبر عنه في الاصطلاح بالمحاسبة، ولومُها يكون بتفكيرها وحديثها النفسي. قال الحسن «ما يُرى المؤمن إلاّ يلوم نفسه على ما فات ويندم، يلوم نفسه على الشر لِم فعله وعلى الخير لم لا يستكثر منه» فهذه نفوس خيّرة حقيقة أن تشرف بالقَسَم بها وما كان يوم القيامة إلاّ لكرامتها. والمراد اللوامة في الدنيا لوماً تنشأ عنه التوبة والتقوى وليسَ المراد لوم الآخرة إذيقول يا ليتني قدمت لحياتي } الفجر 24.

السابقالتالي
2 3