الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } * { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } * { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ } * { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }

هذه الآية وقعت هنا معترضة. وسبب نزولها ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يُحرك به لسانه يُريد أن يحفَظَه مخافةَ أن يتَفَلَّتَ منه، أو من شدة رغبته في حِفْظه فكان يلاقي من ذلك شدة فأنَزَل الله تعالى { لا تُحَرِّكْ به لسانك لتَعْجَل بِه إِنَّ علينا جمعَه وقرآنه }. قال جَمْعَه في صدرك ثم تَقْرَأُه فإذا قرأنَاه فاتّبعْ قُرْآنه قال فاستَمِعْ له وأنْصِتْ، ثم إن علينا أن نبيّنه بلسانك، أي أن تقرأه» اهـ. فلما نزل هذا الوحي في أثناء نزول السورة للغرض الذي نزل فيه ولم يَكن سورةً مستقلة كان ملحقاً بالسورة وواقعاً بين الآي التي نَزَل بينها. فضمير { به } عائد على القرآن كما هو المعروف في آيات كثيرة. وقوله { فإذا قرأناه } ، أي إذا قَرأه جبريل عنا، فأُسْنِدَتْ القراءةُ إلى ضمير الجلالة على طريقة المجاز العقلي، والقرينة واضحة. ومعنى { فاتَّبع قرآنه } ، أي أنْصِتْ إلى قِرَاءتِنَا. فضمير { قرآنه } راجع إلى ما رجع إليه ضمير الغائب في { لا تُحرك به } وهو القرآن بالمعنى الأسمي، فيكون وقوع هذه الآية في هذه السورة مثل وقوعومَا نتنزّل إلاّ بأمر ربك } في سورة مريم 64، ووقوعحافظوا على الصلوات والصلاةِ الوسطى } في أثناء أحكام الزوجات في سورة البقرة 238. قالوا نزلت هذه الآية في أثناء سورة القيامة هذا ما لا خلاف فيه بين أهل الحديث وأيمة التفسير. وذكر الفخر عن القفال أنه قال إن قوله { لا تُحرك به لسانك } ليس خطاباً مع الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو خطاب مع الإِنسان المذكور في قولهينبَّأ الإِنسان } القيامة 13 فكان ذلك للإِنسان حالَما يُنَبَّأُ بقبائح أفعاله فيقال له اقرأ كتابك، فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه فيقال له لا تحرك به لسانك لتعجل به فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك وأن نقرأها عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإِقرار، ثمّ إن علينا بيان مراتب عقوبته، قال القفال فهذا وجه حسن ليس في العقل ما يدفعه وإن كانت الآثار غير واردة به اهـ. وأقول إن كان العقل لا يدفعه فإن الأسلوب العربي ومعاني الألفاظ تنبو عنه. والذي يلوح لي في موقع هذه الآية هنا دون أن تقع فيما سبق نزوله من السور قبل هذه السورة أن سور القرآن حين كانت قليلة كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخشى تفلّت بعض الآيات عنه فلما كثرت السور فبلغت زهاء ثلاثين حسب ما عَده سعيد بن جبير في ترتيب نزول السور، صار النبي صلى الله عليه وسلم يخشى أن ينسى بعض آياتها، فلعله صلى الله عليه وسلم أخذ يحرك لسانه بألفاظ القرآن عند نزوله احتياطاً لحفظه وذلك من حرصه على تبليغ ما أنزل إليه بنصه، فلما تكفل الله بحفظه أمره أن لا يكلف نفسه تحريك لسانه، فالنهي عن تحريك لسانه نهيُ رحمة وشفقة لمَا كان يلاقيه في ذلك من الشدة.

السابقالتالي
2