الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } * { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } * { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ }

{ كلا } ردع ثان مؤكِّد للردع الذي قبله، أي لا يُؤتون صحفاً منشورة ولا يُوزَعون إلاّ بالقرآن. وجملة { إنه تذكرة } تعليل للردع عن سؤالهم أنْ تنزل عليهم صحف منشَّرة، بأن هذا القرآن تذكرة عظيمة، وهذا كقوله تعالىوقالوا لولا أنزل عليه ءايات من ربّه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إنَّ في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } العنكبوت 50، 51. فضمير { إنه } للقرآن، وهو معلوم من المقام، ونظائر ذلك كثيرة في القرآن. وتنكير { تذكرة } للتعظيم. وقوله { فمن شاء ذكره } تفريع على أنه تذكرة ونظيره قوله تعالىإنّ هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلاً } في سورة المزمل 19. وهذا تعريض بالترغيب في التذكر، أي التذكر طوعُ مشيئتكم فإن شئتم فتذكروا. والضمير الظاهر في { ذكره } يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير { إِنه } وهو القرآن فيكون على الحذف والإِيصال وأصله ذَكَر به. ويجوز أن يعود إلى الله تعالى وإن لم يتقدم لاسمه ذكر في هذه الآيات لأنه مستحضَر من المقام على نحو قولهإن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلاً } المزمل 19. وضمير { شاء } راجع إلى مَنْ، أي من أراد أن يتذكر ذَكَر بالقرآن وهو مثل قوله آنفاًلمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر } المدثر 37 وقوله في سورة المزمل 19فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلاً } وهو إنذار للناس بأن التذكر بالقرآن يحصلُ إذا شاؤوا التذكر به. والمشيئة تستدعي التأمل فيما يخلصهم من المؤاخذة على التقصير وهم لا عذر لهم في إهمال ذلك، وقد تقدم في سورة المزمل. وجملة { وما تذْكُرون إلاّ أن يشاء الله } معترضة في آخر الكلام لإِفادة تعلمهم بهذه الحقيقة، والواو اعتراضية. والمعنى أن تذكُّر من شَاءوا أن يتذكروا لا يقع إلاّ مشروطاً بمشيئة الله أن يتذكروا، وقد تكرر هذا في القرآن تكرراً ينبه على أنه حقيقة واقعة كقولهوما تشاءون إلاّ أن يشاء الله } التكوير 29 وقال هنا { كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره } فعلمنا أن للناس مشيئة هي مناط التكاليف الشرعية والجزاءِ في الدنيا والآخرة وهي المعبر عنها عند أهل التحقيق من المتكلمين بالكسب كما حققه الأشعري، وعند المعتزلة بالقدرة الحادثة، وهما عبارتان متقاربتان، وأن لله تعالى المشيئة العظمى التي لا يمانعها مانع ولا يقسرها قاسر، فإذا لم يتوجه تعلقها إلى إرادة أحد عباده لم يحصل له مراد. وهذه المشيئة هي المعبر عنها بالتوفيق إذا تعلقت بإقدار العبد على الداعية إلى الطاعة وامتثال الوصايا الربانية، وبالخِذلان إذا تعلقت بتركه في ضلاله الذي أوْبَقَتْهُ فيه آراؤه الضالة وشهواته الخبيثة الموبقة له في الإِعراض عن شرائع الله ودعوة رسله، وإذا تعلقت بانتشال العبد من أوْحَال الضلال وبإنارَة سبيل الخير لبصيرته سميت لُطفاً مثل تعلقها بإيمان عُمر بن الخطاب وصلاحه بعد أن كان في عناد، وهذا تأويل قوله تعالى

السابقالتالي
2 3