الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } * { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } * { وَبَنِينَ شُهُوداً } * { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } * { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } * { كَلاَّ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً }

لما جرى ذكر الكافرين في قولهفذلك يومئذٍ يوم عسير على الكافرين } المدثر 9، 10، وأشير إلى ما يلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من الكافرين بقولهولربّك فاصبر } المدثر 7 انتقل الكلام إلى ذكر زعيم من زعماء الكافرين ومدبر مطاعنهم في القرآن ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله { ذرني ومن خلقت وحيداً } الخ. استئناف يؤذن بأن حدثاً كان سبباً لنزول هذه الآية عقبَ الآيات التي قبلها، وذلك حين فشا في مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاوده الوحي بعد فترة وأنه أُمر بالإِنذار ويدل على هذا ما رواه ابن إسحاق أنه اجتمع نفر من قريش فيهم أبو لهب، وأبو سفيان، والوليدُ بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وأميةُ بن خلف، والعاصي بنُ وائل، والمُطْعِم بن عَدِي. فقالوا إن وفود العرب ستقدِم عليكم في الموسم وهم يتساءلون عن أمر محمد وقد اختلفتم في الأخبار عنه. فمن قائل يقول مجنون وآخر يقول كاهن، وآخر يقول شاعر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فسَمُّوا محمد باسم واحد تجتمعون عليه وتسميه العرب به، فقام رجل منهم فقال شاعر، فقال الوليد بن المغيرة سمعتُ كلام ابنِ الأبرص يعني عَبيد بن الأبرص وأميّة بن أبي الصلت، وعرفتُ الشعر كله، وما يشبه كلام محمد كلام شاعر، فقالوا كاهن، فقال الوليد ما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه. والكاهن يصدُق ويكذب وما كذب محمد قط، فقام آخر فقال مجنون، فقال الوليد لقد عرفنا الجنون فإن المجنون يُخْنَق فما هو بخنقه ولا تَخالُجِه ولا وسوسته، فقالوا ساحر، قال الوليد لقد رأينا السُّحَّار وسِحْرهم فما هو بنفثه ولا عَقْده، وانصرف الوليد إلى بيته فدخل عليه أبو جهل فقال ما لكَ يَا با عَبدِ شمس أصَبَأْتَ؟ فقال الوليد فكَّرت في أمر محمد وإِن أقربَ القول فيه أن تقولوا ساحر جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فقال ابن إسحاق فأنزل الله في الوليد بن المغيرة قوله { ذرني ومن خلقت وحيداً } الآيات. وعن أبي نصر القشيري أنه قال قيل بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قول كفار مكة أنتَ ساحر فوجد من ذلك غمّاً وحُمَّ فتدثر بثيابه فقال الله تعالىقم فأنذر } المدثر 2. وأيّاما كان فقد وقع الاتفاق على أن هذا القول صدر عن الوليد بن المغيرة وأنه المعنِيُّ بقوله تعالى { ومن خلقت وحيداً } فإن كان قول الوليد صدَر منه بعد نزول صدْر هذه السورة فجملة { ذرني ومن خلقت وحيداً } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً والمناسبة ظاهرة، وإن كان قول الوليد هو سبب نزول السورة، كان متصلاً بقوله

السابقالتالي
2 3 4