الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً }

عطف على قولهفاتخذه وكيلاً } المزمل 9، والمناسبة أن الصبر على الأذى يستعان عليه بالتوكل على الله. وضمير { يقولون } عائد إلى المشركين، ولم يتقدم له معاد فهو من الضمائر التي استُغني عن ذكر معادها بأنه معلوم للسامعين كما تقدم غير مرة، ومن ذلك عند قوله تعالىوأن لو استقاموا على الطريقة } الجن 16 الآيات من سورةقل أوحي إليّ } الجن 1، ولأنه سيأتي عقبه قولهوذَرْني والمكذبين } المزمل 11 فيبين المراد من الضمير. وقد مضى في السور التي نزلت قبل سورة المزمل مقالات أذى من المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففي سورة العلق 9، 10أرأيت الذي ينهَى عبداً إذا صلى } قيل هو أبو جهل تهدّد رسول الله لئن صلى في المسجد الحرام ليَفْعَلَنّ ويفعلَنّ. وفيهاإِن الإِنسان ليطغى أن رءاه استغنى } العلق 6، 7. قيل هو الأخنس بن شريق «تنكَّر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان حليفه»، وفي سورة القلم 2 ــ 6ما أنت بنِعْمة ربّك بمجنون } إلى قولهفستبصر ويُبصرون بأيكم المفتون } ، وقولهولا تطِع كلّ حلاّف مهين } القلم 10 إلى قولهقال أساطير الأولين } القلم 15 ردّاً لمقالاتهم. وفي سورة المدثر 11 ــــ 25 إن كانت نزلت قبل سورة المزملذرني ومن خلقت وحيداً } إلى قولهإِنْ هذا إلاَّ قول البشر } ، قيل قائل ذلك الوليد بن المغيرة. فلذلك أمر الله رسوله بالصبر على ما يقولون. والهجر الجميل هو الحسَن في نوعه، فإن الأحوال والمعاني منها حسن ومنها قبيح في نوعه وقد يقال كَريم، وذميم، وخالص، وكدر، ويَعْرِض الوصف للنوع بما من شأنه أن يقترن به من عوارض تناسب حقيقة النوع فإذا جُردت الحقيقة عن الأعراض التي قد تعتلق بها كان نوعها خالصاً، وإذا ألصق بالحقيقة ما ليس من خصائصها كان النوع مكدّراً قبيحاً، وقد أشار إلى هذا قوله تعالىلا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى } البقرة 264، وتقدم عند قوله تعالىإنيَ أُلقِيَ إليَّ كتاب كريم } في سورة النمل 29، ومن هذا المعنى قولهفصبر جميل } في سورة يوسف 18، وقولهفاصبر صبراً جميلاً } في سورة المعارج 5. فالهجر الجميل هو الذي يَقتصر صاحبه على حقيقة الهجر، وهو ترك المخالطة فلا يقرنها بجفاء آخر أو أذى، ولما كان الهجر ينشأ عن بعض المهجور، أو كراهية أعماله كان معرَّضاً لأن يعتلق به أذى من سبّ أو ضرب أو نحو ذلك. فأمر الله رسوله بهجر المشركين هجراً جميلاً، أي أن يهجرهم ولا يزيدَ على هجرهم سَبّاً أو انتقاماً. وهذا الهجر هو إمساك النبي عن مكافاتهم بمثل ما يقولونه مما أشار إليه قوله تعالى { واصبر على ما يقولون }. وليس منسحباً على الدعوة للدين فإنها مستمرة ولكنها تبليغ عن الله تعالى فلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد انتزع فخر الدين من هذه الآية منزعاً خُلُقياً بأن الله جمع ما يحتاج إليه الإِنسان في مخالطَة الناس في هاتين الكلمتين لأن المرء إما أن يكون مخالطاً فلا بد له من الصبر على أذاهم وإيحاشهم لأنه إن أطمع نفسه بالراحة معهم لم يجدها مستمرة فيقع في الغموم إن لم يَرضْ نفسه بالصبر على أذاهم، وإن ترك المخالطة فذلك هو الهجر الجميل.