الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } * { فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ } * { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ }

كلام مستأنف استئنافاً ابتدائياً للانتقال من إثبات الجزاء إلى الاحتجاج على إمكان البعث إبطالاً لشبهتهم الباعثة على إنكاره، وهو الإِنكار الذي ذكر إجمالاً بقوله المتقدم آنفاًإنهم يَرونه بعيداً ونَراه قريباً } المعارج 6، 7 فاحتج عليهم بالنشأة الأولى، كما قال تعالىولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون } الواقعة 62 فالخبر بقوله { إنّا خلقناهم مما يعلمون } مستعمل في لازم معناه وهو إثبات إعادة خلْقهم بعد فنائهم. فهذا من تمام الخطاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والمقصود منه أن يبلغ إلى أسماع المشركين كما تقدم آنفاً. والمعنى أنا خلقنا الإنسان من نطفة حتى صارت إنساناً عاقلاً مناظراً فكذلك نعيد خلقه بكيفية لا يعلمونها. فما صْدَقُ ما يعلمون هو ما يعلمه كل أحد من أنه كون في بطن أمه من نطفة وعلقة، ولكنهم علموا هذه النشاة الأولى فألهاهم التعوّد بها عن التدبر في دلالتها على إمكان إعادة المكوَّن منها بتكوين آخر. وعُدِل عن أن يقال إنا خلقناهم من نطفة، كما قال في آيات أخرىإنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج } الإنسان 2 وقالأو لم يرَ الإِنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم } يس 77، 78 وغيرها من آيات كثيرة، عدل عن ذلك إلى الموصول في قوله { مما يعلمون } توجيهاً للتهكم بهم إذ جادلوا وعاندوا، وعِلْمُ ما جادلوا فيه قائم بأنفسهم وهم لا يشعرون، ومنه قوله تعالىولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذَّكَّرون } الواقعة 62. وكان في قوله تعالى { مما يعلمون } إيماء إلى أنهم يُخْلَقون الخلقَ الثانيمما لا يعلمون } يس 36 كما قال في الآية الأخرىسبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون } يس 36 وقالوننشئكم في ما لا تعلمون } الواقعة 61 فكان في الخَلْق الأول سِرٌّ لا يعلمونه. ومجيء { إنا خلقناهم } موكداً بحرف التأكيد لتنزيلهم فيما صدر منهم من الشبهة الباطلة منزلة من لا يعلمون أنهم خُلقوا من نطفة وكانوا معدومين، فكيف أحالوا إعادة خلقهم بعد أن عدم بعض أجزائهم وبقي بعضها ثم أتبع هذه الكناية عن إمكان إعادة الخلق بالتصريح بذلك بقوله { فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدِّل خيراً منهم } مفرعاً على قوله { إنا خلقناهم مما يعلمون } والتقدير فإنا لقادرون الآية. وجملة لا أقسم برب المشارق الخ معترضة بين الفاء وما عطفته. والقَسَم بالله بعنوان ربوبيته المشارقَ والمغارب معناه ربوبيته العالم كله لأن العالم منحصر في جهات شروق الشمس وغروبها. وجمع { المشارق والمغارب } باعتبار تعدد مطالع الشمس ومغاربها في فصول السنة فإن ذلك مظهر عجيب من مظاهر القدرة الإلهية والحكمةِ الربانية لدلالته على عظيم صنع الله من حيث إنه دال على الحركات الحافة بالشمس التي هي من عظيم المخلوقات، ولذلك لم يذكر في القرآن قسَم بجهة غير المشرق والمغرب دون الشمال والجنوب مع أن الشمال والجنوب جهتان مشهورتان عند العرب، أقسم الله به على سُنة أقسام القرآن.

السابقالتالي
2