الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } * { أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَٰتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ } * { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } * { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَاسِرُونَ }

عُطفت جملة { ولو أن أهل القرى } على جملةوما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء } الأعراف 94 أي ما أرسلنا في قرية نبيئاً فكذبه أهلها إلاّ نبهناهم واستدرجناهم ثم عاقبناهم، ولو أن أهل تلك القرى المُهْلَكَةِ آمنوا بما جاءهم به رسولهم واتقوا ربهم لما أصبناهم بالبأساء ولأحييناهم حياة البركة، أي ما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم. وشرط لو الامتناعية يحصل في الزمن الماضي، ولما جاءت جملة شرطها مقترنة بحرف أنّ المفيد للتأكيد والمصدرية، وكان خبر أنّ فعلاً ماضياً توفر معنى المضي في جملة الشرط. والمعنى لو حصل إيمانهم فيما مضى لفتحنا عليهم بركات. والتقْوى هي تقوى الله بالوقوف عند حدوده وذلك بعد الإيمان. والتعريف في { القرى } تعريف العهد، فإضافة { أهل } إليه تفيد عمومه بقدر ما أضيف هو إليه، وهذا تصريح بما أفهمه الإيجاز في قولهوما أرسلنا في قرية من نبي إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء } الأعراف 94 الآية كما تقدم، وتعريض بإنذار الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم من أهل مكة، وتعريض ببشارة أهل القُرى الذين يؤمنون كأهل المدينة، وقد مضى في صدر تفسير هذه السورة ما يقرّب أنها من آخر ما نزل بمكة، وقيل، إن آيات منها نزلت بالمدينة كما تقدم وبذلك يظهر موقع التعريض بالنذارة والبشارة للفريقين من أهل القرى، وقد أخذ الله أهل مكة بعد خروج المؤمنين منها فأصابهم بسبع سنين من القحط، وبارك لأهل المدينة وأغناهم وصرف عنهم الحمى إلى الجُحفة، والجُحفة يومئذٍ بلاد شرك. والفتح إزالة حَجْز شيء حاجز عن الدخول إلى مكان، يقال فتح الباب وفتح البيت، وتعديته إلى البيت على طريقة التوسع، وأصله فتح للبيت، وكذلك قوله هنا { لفتحنا عليهم بركات } وقولُهما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها } فاطر 2، ويقال فتح كوة، أي جعلها فتحة، والفتح هنا استعارة للتمكين، كما تقدم في قوله تعالىفلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء } في سورة الأنعام 44. وتعدية فعل الفتح إلى البركات هنا استعارة مكنية بتشبيه البركات بالبيوت في الانتفاع بما تحتويه، فهنا استعارتان مكنية وتبعية، وقرأ ابن عامر لفتّحنا } ــــ بتشديد التاءِ ــــ وهو يفيد المبالغة. والبركات جمع بركة، والمقصود من الجمع تعددها، باعتبار تعدد أصناف الأشياء المباركة. وتقدم تفسير البركة عند قوله تعالىوهذا كتاب أنزلناه مبارك } في سورة الأنعام 92. وتقدم أيضاً في قوله تعالىإن أول بيت وضع للناس للّذي ببكّة مباركاً } في سورة آل عمران 96. وتقدم أيضاً في قوله تعالىتَبارك الله رب العالمين } في هذه السورة 54، وجُماع معناها هو الخير الصالح الذي لا تبعة عليه في الآخرة فهو أحسن أحوال النعمة، ولذلك عبر في جانب المغضوب عليهم المستدرَجين بلفظ { الحسنة } بصيغة الإفراد في قوله

السابقالتالي
2 3 4