الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن ٱلْعَالَمِينَ } * { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ }

عُطف { ولوطاً } على { نوحاً } في قولهلقد أرسلنا نوحاً } الأعراف 59 فالتّقدير وأرسلنا لوطاً، وتغيير الأسلوب في ابتداء قصّة لوط وقومه إذ ابتُدئت بذكر لوطاً كما ابتدئت قصّة بذكر نوح لأنه لم يكن لقوم لوط اسم يعرفون به كما لم يكن لقوم نوح اسم يعرفون به. وإذ ــــ ظرف متعلّق بــــ أرسلنا المقدر يعني أرسلناه وقت قال لقومه وجعل وقت القول ظرفاً للإرسال لإفادة مبادرته بدعوة قومه إلى ما أرسله الله به، والمقارنة التي تقتضيها الظّرفية بين وقت الإرسال ووقت قوله، مقارنةٌ عرفية بمعنى شدّة القرب بأقصى ما يستطاع من مبادرة التّبليغ. وقوم لوط كانوا خليطاً من الكنعانيين وممّن نزل حولهم. ولذلك لم يوصف بأنّه أخوهم إذ لم يكن من قبائلهم، وإنّما نزل فيهم واستوطن ديارهم. ولوط عليه السّلام هو ابن أخِي إبراهيم عليه السّلام كما تقدّم في سورة الأنعام، وكان لوط عليه السّلام قد نزل ببلاد سَدوم ولم يكن بينهم وبينه قرَابة. والقوم الذين أرسل إليهم لوط عليه السّلام هم أهل قرية سدوم وعمُّورة من أرض كنعان، وربّما أطلق اسم سدوم وعمُّورة على سكّانهما. وهو أسلاف الفنيقيين وكانتا على شاطىء السديم، وهو بحر الملح، كما جاء في التّوراة وهو البحر الميّت المدعو بحيرة لوط بقرب أرشليم. وكانت قرب سدوم ومن معهم أحدثوا فاحشة استمتاع الرّجال بالرّجال، فأمر الله لوطاً عليه السّلام لما نزل بقريتهم سدوم في رحلته مع عمّه إبراهيم عليه السّلام أن ينهاهم ويغلظ عليهم. فالاستفهام في { أتأتون } إنكاري توبيخي، والإتيان المستفهم عنه مجاز في التّلبّس والعمل، أي أتعملون الفاحشة، وكني بالإتيان على العمل المخصوص وهي كناية مشهورة. والفاحشه الفعل الدّنيء الذّميم، وقد تقدّم الكلام عليها عند تفسير قوله تعالىوإذا فعلوا فاحشة } الأعراف 28 والمراد هنا فاحشة معروفة، فالتّعريف للعهد. وجملة { ما سبقكم بها من أحد من العالمين } مستأنفة استينافاً ابتدائياً، فإنّه بعد أن أنكر عليهم إتيان الفاحشة، وعبّر عنها بالفاحشة، وبّخهم بأنّهم أحدثوها، ولم تكن معروفة في البشر فقد سَنُّوا سنة سيّئة للفاحشين في ذلك. ويجوز أن تكون جملة { ما سبقكم بها من أحد } صفة للفاحشة، ويجوز أن تكون حالا من ضمير { تأتون } أو من { الفاحشة }. والسبق حقيقته وصول الماشي إلى مكان مطلوب له ولغيره قبل وصول غيره، ويستعمل مجازاً في التّقدّم في الزّمان، أي الأوّلية والابتداءِ، وهو المراد هنا، والمقصود أنّهم سبقوا النّاس بهذه الفاحشة إذ لا يقصد بمثل هذا التّركيب أنّهم ابتدأوا مع غيرهم في وقت واحد. والباء لتعدية فعل سبق لاستعماله بمعنى ابتدا فالباء ترشيح للتّبعيّة. ومِنْ الدّاخلة على أحدٍ لتوكيد النّفي للدّلالة على معنى الاستغراق في النّفي. ومِن الداخلة على { العالمين } للتبعيض.

السابقالتالي
2 3 4