الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَـٰلَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } * { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }

فصلت جملة { قال } على طريقة فَصْل المحاورات. والنّداء في جوابه إياهم للاهتمام بالخبر، ولم يخصّ خطابَه بالذين جاوبوه، بل أعاد الخطاب إلى القوم كلّهم، لأنّ جوابه مع كونه مجادلة للملأ من قومه هو أيضاً يتضمّن دعوة عامة، كما هو بيِّن، وتقدّم آنفاً نكتة التّعبير في ندائهم بوصف القوم المضاف إلى ضميره، فأعاد ذلك مرّة ثانية استنزالاً لطائر نفوسهم ممّا سيَعقُب النّداء من الرد عليهم وإبطال قولهمإنّا لنراك في ضلال مبين } الأعراف 60. والضّلالة مصدر مثل الضّلال، فتأنيثه لَفْظي محض، والعرب يستشعرون التّأنيث غالباً في أسماء أجناس المعاني، مثل الغواية والسّفاهة، فالتّاء لمجرّد تأنيث اللّفظ وليس في هذه التّاء معنى الوحدة لأنّ أسماء أجناس المعاني لا تراعَى فيها المُشخّصات، فليس الضّلال بمنزلة اسم الجمع للضّلالة، خلافاً لِما في «الكشاف»، وكأنَّه حاول إثبات الفرق بين قول قومه لهإنّا لنراك في ضلال } الأعراف 60، وقوله هُو { ليس بي ضلالة } وتبعه فيه الفخر، وابن الأثير في «المثل السّائر»، وقد تكلّف لتصحيحه التفتزاني، ولا حاجة إلى ذلك، لأنّ التّخالف بين كلمتي ضلال وضلالة اقتضاه التّفنّن حيث سبق لفظ ضلال، وموجب سبقه إرادة وصفه بــــمبين } الأعراف 60، فلو عبّر هنالك بلفظ ضلالة لكان وصفها بمبيّنة غير مألوف الاستعمال، ولما تقدّم لفظضلال } الأعراف 60 استحسن أن يعاد بلفظ يغايره في السّورة دفعاً لثقل الإعادة فقوله { ليس بي ضلالة } ردّ لقولهمإنا لنراك في ضلال مبين } الأعراف 60 بمساويه لا بأبلغ منه. والباء في قوله { بي } للمصاحبة أو الملابسة، وهي تناقض معنى الظرفية المجازية من قولهمفي ضلال } الأعراف 60 فإنّهم جعلوا الضّلال متمكّنا منه، فنفى هو أن يكون للضّلال متلبّس به. وتجريد { ليس } من تاء التّأنيث مع كون اسمها مؤنّث اللّفظ جرى على الجواز في تجريد الفعل من علامة التّأنيث، إذا كان مرفوعه غير حقيقي التّأنيث، ولمكان الفصل بالمجرور. والاستدراك الذي في قوله { ولكني رسول } لرفع ما توهّموه من أنّه في ضلال حيث خالف دينهم، أي هو في حال رسالة عن الله، مع ما تقتضي الرّسالة من التّبليغ والنّصح والإخبارِ بما لا يعلمونه، وذلك ما حسبوه ضلالاً، وشأن لكن أن تكون جملتها مفيدة معنى يغاير معنى الجملة الواقعة قبلها، ولا تدلّ عليه الجملة السّابقة وذلك هو حقيقة الاستدراك الموضوعةُ له لكِنّ فلا بد من مناسبة بين مضموني الجملتين إما في المسند نحوولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكنّ الله سَلَّم } الأنفال 43 أو في المسند إليه نحووما رميتَ إذ رميت ولكنّ الله رمى } الأنفال 17 فلا يحسن أن تقول ما سافرت ولكنّي مقيم، وأكثر وقوعها بعد جملة منفية، لأنّ النّفي معنى واسع، فيكثر أن يحتاج المتكلّم بعده إلى زيادة بيان، فيأتي بالاستدراك، ومن قال إنّ حقيقة الاستدراك هو رفْعُ ما يتوَهَّم السّامع ثبوتَه أو نفيه فإنّما نظر إلى بعض أحوال الاستدراك أو إلى بعض أغراض وقوعه في الكلام البليغ، وليس مرادُهم أنّ حقيقة الاستدراك لا تتقوم إلاّ بذلك.

السابقالتالي
2 3 4