الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ }

جملة معترضة بين جملةكذلك نخرج الموتى } الأعراف 57 وبين جملةلقد أرسلنا نوحاً } الأعراف 59 تتضمّن تفصيلاً لمضمون جملةفأخرجنا به من كل الثمرات } الأعراف 57 إذ قد بيّن فيها اختلاف حال البلد الذي يصيبه ماء السّحاب، دعا إلى هذا التّفصيل أنّه لما مُثِّل إخراج ثمرات الأرض بإخراج المَوتى منها يوم البعث تذكيراً بذلك للمؤمنين، وإبطالاً لإحالة البعث عند المشركين، مُثل هنا باختلاف حال إخراج النّبات من الأرض اختلافُ حال النّاس الأحياءِ في الانتفاع برحمة هُدى الله، فموقع قوله { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } كموقع قولهكذلك نخرج الموتى } الأعراف 57 ولذلك ذُيل هذا بقوله { كذلك نصرف الأيات لقوم يشكرون } كما ذيل ما قبله بقولهكذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } الأعراف 57. والمعنى كذلك نخرج الموتى وكذلك ينتفع برحمة الهَدْي من خُلقت فطرته طيّبة قابلة للهُدى كالبلد الطّيّب ينتفع بالمطر، ويحرم من الانتفاع بالهدى من خلقت فطرته خبيثة كالأرض الخبيثة لا تنتفع بالمطر فلا تنبت نباتاً نافعاً، فالمقصود من هذه الآية التّمثيل، وليسَ المقصود مجرّد تفصيل أحوال الأرض بعد نزول المطر، لأنّ الغرض المسوق له الكلام يجمع أمرين العبرةَ بصنع الله، والموعظَة بما يماثل أحواله. فالمعنى كما أنّ البلد الطّيّب يَخرج نباته سريعاً بَهِجاً عند نزول المطر، والبلد الخبيثَ لا يكاد ينبت فإن أنبت أخرج نبْتاً خبيثاً لا خير فيه. والطيب وصف على وزن فَيْعِل وهي صيغة تدلّ على قوّة الوصف في الموصوف مثل قيّم، وهو المتّصف بالطِّيببِ، وقد تقدّم تفسير الطيب عند قوله تعالىقل أحلّ لكم الطّيّباتُ } في سورة المائدة 4، وعند قولهيا أيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيِّباً } في سورة البقرة 168. والبلد الطّيب الأرضُ الموصوفة بالطِّيبِ، وطيبها زكاء تربتها وملاءمتها لإخراج النّبات الصّالح وللزّرع والغرس النّافع وهي الأرض النّقيّه. والذي خبث ضدّ الطَّيب. وقوله { بإذن ربه } في موضع الحال من { نباته } والإذن الأمر، والمراد به أمر العناية به كقولهلِمَا خلقتُ بيَدَيّ } ص 75 ليدلّ على تشريف ذلك النّبات، فهو في معنى الوصف بالزّكاء، والمعنى البلد الطَّيب يخرج نباته طيّباً زكياً مثلَه، وقد أشار إلى طيب نباته بأنّ خروجه بإذن ربّه، فأريد بهذا الإذن إذنٌ خاص هو إذن عناية وتكريم، وليس المراد إذن التّقدير والتّكوين فإنّ ذلك إذن معروف لا يتعلّق الغرض ببَيانه في مثل هذا المقام. { والذي خبث } حملهُ جميع المفسّرين على أنّه وصف للبلد، أي البلد الذي خبث وهو مقابل البلد الطّيب، وفسّروه بالأرض التي لا تنبت إلاّ نباتاً لا ينفع، ولا يسرع إنباتها، مثل السّباخ، وحملوا ضمير يَخْرج على أنّه عائد للنّبات، وجعلوا تقدير الكلام والذي خبث لا يخرج نباتُه إلاّ نَكِداً، فحُذف المضاف في التّقدير، وهو نبات، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهو ضمير البلد الذي خبث، المستترُ في فعل يخرج.

السابقالتالي
2