الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ }

استئناف جاء معترضاً بين ذكر دلائل وحدانية الله تعالى بذكر عظيم قدرته على تكوين أشياء لا يشاركه غيره في تكوينها. فالجملة معترضة بين جملةيغشى الليل النهار } الأعراف 54 وجملةوهو الذي يرسل الرياح } الأعراف 57 جرى هذا الاعتراض على عادة القرآن في انتهاز فُرص تهنُّؤ القلوب للذّكرى. والخطاب بــــ { ادعوا } خاص بالمسلمين لأنّه تعليم لأدب دعاء الله تعالى وعبادته، وليس المشركون بمتهيّئين لمثل هذا الخطاب، وهو تقريب للؤمنين وإدناء لهم وتنبيه على رضى الله عنهم ومحبّته، وشاهدُه قوله بعدهإن رحمت الله قريب من المحسنين } الأعراف 56. والخطاب مُوَجَّه إلى المسلمين بقرينة السياق. والدّعاء حقيقته النّداء، ويطلق أيضاً على النّداء لطلب مهمّ، واستعمل مجازاً في العبادة لاشتمالها على الدّعاء والطّلب بالقول أو بلسان الحال، كما في الرّكوع والسّجود، مع مقارنتها للأقوال وهو إطلاق كثير في القرآن. والظاهر أنّ المراد منه هنا الطّلب والتّوجه، لأنّ المسلمين قد عبدوا الله وأفردوه بالعبادة، وإنّما المهمّ إشعارهم بالقرب من رحمة ربّهم وإدناء مَقامهم منها. وجيء لتعريف الرّب بطريق الإضافة دون ضمير الغائب، مع وجود معاد قريب في قولهتبارك الله } الأعراف 54 ودون ضمير المتكلّم، لأنّ في لفظ الرّب إشعاراً بتقريب المؤمنين بصلة المربوبية، وليتوسّل بإضافة الرّب إلى ضمير المخاطبين إلى تشريف المؤمنين وعناية الرّب بهم كقولهبل الله مولاكم } آل عمران 150. والتّضرّع إظهار التّذلل بهيئة خاصة، ويطلق التّضرع على الجهر بالدّعاء لأنّ الجهر من هيئة التّضرع، لأنّه تذلّل جهري، وقد فُسّر في هذه الآية وفي قوله في الأنعام 63تدعونه تضرعاً وخفية } بالجهر بالدّعاء، وهو الذي نختاره لأنّه أنسب بمقابلته بالخُفية، فيكون أسلوبه وفقا لأسلوب نظيره في قولهادعوه خوفاً وطمعاً } الأعراف 56 وتكون، الواو للتقسيم بمنزلة أو وقد قالوا إنّها فيه أجود من أوْ. ومن المفسّرين من أبقى التّضرع على حقيقته وهو التّذلل، فيكون مصدراً بمعنى الحال، أي متذلّلين، أو مفعولاً مطلقاً لــــ { ادعوا } ، لأنّ التّذلّل بعض أحوال الدّعاء فكأنّه نوع منه، وجعلوا قوله وخفية } مأموراً به مقصوداً بذاته، أي ادعوه مُخفين دعاءكم، حتّى أوهم كلام بعضهم أنّ الإعلان بالدّعاء منهي عنه أو غير مثوب عليه، وهذا خطأ فإنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم دعا علَناً غير مرّة. وعلى المنبر بمسمع من النّاس وقال " اللّهمّ اسْقِنا " وقال " اللّهمّ حَوالَيْنا ولا علينا " وقال " اللّهمّ عليك بقريش " الحديث. وما رويت أدعيته إلاّ لأنّه جهر بها يسمعها من رَوَاها، فالصّواب أنّ قوله { تضرعاً } إذنٌ بالدّعاء بالجهر والإخفاء، وأمّا ما ورد من النّهي عن الجهر فإنّما هو عن الجهر الشّديد الخارج عن حدّ الخشوع. وقرأ الجمهور { وخفية } ــــ بضمّ الخاء ــــ وقرأه أبو بكر ــــ بكسر الخاء ــــ وتقدّم في الأنعام.

السابقالتالي
2