الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } * { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }

عطف على جملةولا تتّبعوا } الأعراف 3 وهذا الخبر مستعمل في التّهديد للمشركين الذين وجه إليهم التّعريض في الآية الأولى والذين قصدوا من العموم. وقد ثلث هنا بتمحيض التّوجيه إليهم. وإنّما خُصّ بالذّكر إهلاك القرى، دون ذكر الأمم كما في قولهفأمّا ثمود فأهلكوا بالطّاغية وأمّا عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية } الحاقة 5، 6، لأنّ المواجهين بالتّعريض هم أهل مكّة وهي أمّ القرى، فناسب أن يكون تهديد أهلها بما أصاب القرى وأهلها ولأنّ تعليق فعل { أهلكنا } بالقرية دون أهلها لقصد الإحاطة والشّمول، فهو مغن عن أدوات الشّمول، فالسّامع يعلم أنّ المراد من القرية أهلها لأنّ العبرة والموعظة إنّما هي بما حصل لأهل القرية، ونظيرها قوله تعالىوسأل القرية التي كنا فيها } يوسف 82 ونظيرهما معاً قولهما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون } الأنبياء 6، فكلّ هذا من الإيجاز البديع، والمعنى على تقدير المضاف، وهو تقدير معنى. وأجرى الضّميران في قوله { أهلكناها فجاءها بأسنا } على الإفراد والتّأنيث مراعاة للفظ قرية، ليحصل التماثل بين لفظ المعاد ولفظ ضميره في كلام متّصللِ القرب، ثمّ أجريت ضمائر القرية على صيغة الجمع في الجملة المفرعة عن الأولى في قوله { أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم } إلخ لحصول الفصل بين الضّمير ولفظ معاده بجملة فيها ضمير معاده غير لفظ القرية، وهو { بأسنا بياتاً } لأنّ بياتاً متحمّل لضمير البأس، أي مبيِّتاً لهم، وانتقل منه إلى ضمير القرية باعتبار أهلها فقال { أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم }. وكم اسم حال على عدد كثير وهو هنا خبر عن الكثرة وتقدّم في أوّل سورة الأنعام. والإهلاك الإفناء والاستئصال. وفعل { أهلكناها } يجوز أن يكون مستعملاً في معنى الإرادة بحصول مدلوله ويجوز أن يكون مستعملاً في ظاهر معناه. والفاء في قوله { فجاءها بأسنا } عاطفة جملة { فجاءها بأسنا } على جملة { أهلكناها } ، وأصل العاطفة أن تفيد ترتيب حصول معطوفها بعد حصول المعطوف عليه، ولما كان مجيء البأس حاصلاً مع حصول الإهلاك أو قبلَه، إذ هو سبب الإهلاك، عسر على جمع من المسفّرين معنى موقع الفاء هنا، حتّى قال الفرّاء إنّ الفاء لا تفيد التّرتيب مطلقاً، وعنه أيضاً إذا كان معنى الفعلين واحداً أو كالواحد قدّمت أيّهما شئت مثل شتمني فأساء وأساء فشتمني. وعن بعضهم أنّ الكلام جرى على طريقة القلب، والأصل جاءها بأسنا فأهلكناها، وهو قلب خلي عن النّكتة فهو مردود، والذي فسّر به الجمهور أنّ فعل أهلكناها مستعمل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالىفإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشّيطان الرّجيم } النحل 98 وقولهإذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } المائدة 6 الآية أي فإذا أردت القراءة، وإذا أردتم القيام إلى الصّلاة، واستعمال الفعل في معنى إرادة وقوع معناه من المجاز المرسل عند السكاكي قال ومن أمثلة المجاز قوله تعالى

السابقالتالي
2 3 4 5