الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } * { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ كَافِرُونَ }

جملة { ونادى أصحاب الجنّة } يجوز أن تكون معطوفة على جملةوقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } الأعراف 43 إلخ، عطفَ القول على القول، إذْ حكي قولهم المنبيءُ عن بهجتهم بما هم فيه من النّعيم، ثمّ حكي ما يقولونه لأهل النّار حينما يشاهدونهم. ويجوز أن تكون معطوفة على جملةونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها } الأعراف 43 عطف القصّة على القصّة بمناسبة الانتقال من ذكر نداء من قبل الله إلى ذكر مناداة أهل الآخرة بعضِهم بعضاً، فعلى الوجهين يكون التعبير عنهم بأصحاب الجنّة دون ضميرهم توطئة لذكر نداء أصحاب الأعراف ونداء أصحاب النّار، ليعبَّر عن كلّ فريق بعنوانه وليكون منه محسن الطباق في مقابلته بقوله { أصحاب النار }. وهذا النّداء خطاب من أصحاب الجنّة، عبّر عنه بالنّداء كناية عن بلوغه إلى أسماع أصحاب النّار من مسافة سحيقة البُعد، فإن سعة الجنّة وسعة النّار تقتضيان ذلك لا سيما قولهوبينهما حجاب } الأعراف 46، ووسيلة بلوغ هذا الخطاب من الجنّة إلى أصحاب النّار وسيلة عجيبة غير متعارفة.وعلم الله وقدرتُه لا حدّ لمتعلّقاتهما. وأنّ في قوله { أن قد وجدنا } تفسيرية للنّداء. والخبر الذي هو قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا } مستعمل في لازم معناه وهو الاغتباط بحالهم، وتنغيص أعدائهم بعلمهم برفاهيّة حالهم، والتوركُ على الأعداء إذ كانوا يحسبونهم قد ضلّوا حين فارقوا دين آبائهم، وأنّهم حَرموا أنفسهم طيّبات الدّنيا بالانكفاف عن المعاصي، وهذه معانٍ متعدّدة كلّها من لوازم الإخبار، والمعاني الكنائيّة لا يمتنع تعدّدها لأنّها تبع للّوازممِ العقليّة، وهذه الكناية جمع فيها بين المعنى الصّريح والمعاني الكنائيّة، ولكنّ المعاني الكنائيّة هي المقصودة إذ ليس القصد أن يَعلم أهل النّار بما حصل لأهل الجنّة ولكن القصد ما يلزم عن ذلك. وأمّا المعاني الصّريحة فمدلولة بالأصالة عند عدم القرينة المانعة. والاستفهام في جملة { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا } مستعمل مجازاً مرسلاً بعلاقة اللّزوم في توقيف المخاطبين على غلطهم، واثارة ندامتهم وغمّهم على ما فرط منهم، والشّماتة بهم في عواقب عنادهم. والمعاني المجازيّة التي علاقتها اللّزوم يجوز تعدّدها مثل الكناية، وقرينة المجاز هي ظهور أنّ أصحاب الجنّة يعلمون أنّ أصحاب النّار وجدوا وعده حقاً. والوجدان إلفاء الشّيء ولقيّه، قال تعالىفوجد فيها رجلين يقتتلان } القصص 15 وفِعله يتعدّى إلى مفعول واحد، قال تعالىووجد الله عنده } النور 39 ويغلب أن يذكر مع المفعول حالُه، فقوله { وجدنا ما وعدنا ربنا حقا } معناه ألفيناه حالَ كونه حقاً لا تخلّف في شيء منه، فلا يدلّ قوله { وجدنا } على سبق بحث أو تطلب للمطابقة كما قد يتوهّم، وقد يستعمل الوجدان في الإدراك والظنّ مجازاً، وهو مجاز شائع. وما موصولة في قوله { مَا وعدنا ربّنا } ــــ و { مَا وعد ربّكم } ودَلت على أنّ الصّلة معلومة عند المخاطبين، على تفاوت في الإجمال والتّفصيل، فقد كانوا يعلمون أنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وعد المؤمنين بنعيم عظيم، وتوعّد الكافرين بعذاب أليم، سمع بعضهم تفاصيل ذلك كلَّها أو بعضها، وسمع بعضهم إجمالها مباشرة أو بالتّناقل عن إخوانهم، فكان للموصولية في قوله { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا } إيجازٌ بديع، والجواب بنَعَم تحقيق للمسؤول عنه بهل لأنّ السؤال بهَل يتضمّن ترجيح السّائل وقوع المسؤول عنه، فهو جوابُ المقرّ المتحسّر المعترف، وقد جاء الجواب صالحاً لظاهر السّؤال وخفيِّه، فالمقصود من الجواب بها تحقيق ما أريد بالسؤال من المعاني حقيقة أو مجازاً، إذ ليست نعَم خاصة بتحقيق المعاني الحقيقيّة.

السابقالتالي
2 3