انتساق النّظم يقتضي أن تكون جملة { تجري من تحتهم الأنهار } حالاً من الضّمير في قوله{ هم فيها خالدون } الأعراف 42، وتكونَ جملة { ونزعنا } مُعترضة بين جملة{ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } الأعراف 42، وجملة { وقالوا الحمد لله } إلخ، اعترضاً بُيِّنَ به حال نفوسهم في المعاملة في الجنّة، ليقابِل الاعتراض الذي أُدمِج في أثناءِ وصف عذاب أهل النّار، والمبيّن به حال نفوسهم في المعاملة بقوله{ كلما دخلت أمة لعنت أختها } الأعراف 38. والتّعبير عن المستقبل بلفظ الماضي للتّنبيه على تحقّق وقوعه، أي وننزع ما في صدورهم من غِل، وهو تعبير معروف في القرآن كقوله تعالى{ أتى أمر الله } النحل 1. والنّزْع حقيقته قلع الشّيء من موضعه وقد تقدّم عند قوله تعالى{ وتنزع الملك ممن تشاء } في آل عمران 26، ونَزْع الغِل من قلوب أهل الجنّة هو إزالة ما كان في قلوبهم في الدّنيا من الغِلّ عند تلقي ما يسوء من الغَيْر، بحيث طَهّر الله نفوسهم في حياتها الثّانية عن الانفعال بالخواطر الشرّية التي منها الغِلّ، فزال ما كان في قلوبهم من غِلّ بعضهم من بعض في الدّنيا، أي أزال ما كان حاصلاً من غلّ وأزال طباع الغلّ التي في النّفوس البشريّة بحيث لا يخطر في نفوسهم. والغِلّ الحقد والإحْنَة والضِغْن، التي تحصل في النّفس عند إدراك ما يسوؤها من عمل غيرها، وليس الحسد من الغِلّ بل هو إحساس باطني آخر. وجملة { تجري من تحتهم الأنهار } في موضع الحال، أي هم في أمكنة عالية تشرف على أنهار الجنّة. وجملة { وقالوا الحمد لله } معطوفة على جملة{ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } الأعراف 42. والتّعبير بالماضي مراد به المستقبل أيضاً كما في قوله { ونزعنا } وهذا القول يحتمل أن يكونوا يقولونه في خاصتهم ونفوسهم، على معنى التّقرب إلى الله بحمده، ويحتمل أن يكونوا يقولونه بينهم في مجامعهم. والإشارة في قولهم { لهذا } إلى جميع ما هو حاضر من النّعيم في وقت ذلك الحمد، والهداية له هي الإرشاد إلى أسبابه، وهي الإيمان والعمل الصّالح، كما دلّ عليه قوله{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات } الأعراف 42، وقال تعالى{ يهديهم ربهم بإيمانهم } يونس 9 الآية، وجعل الهداية لنفس النّعيم لأنّ الدّلالة على ما يوصل إلى الشّيء إنّما هي هداية لأجل ذلك الشّيء، وتقدّم الكلام على فعل الهداية وتعديته في سورة الفاتحة 6. والمراد بهَدْي الله تعالى إياهم إرساله محمّداً صلى الله عليه وسلم إليهم فأيقظهم من غفلتهم فاتَّبعوه، ولم يعاندوا، ولم يستكبروا، ودلّ عليه قولهم { لقد جاءت رسل ربنا بالحق } مع ما يسّر الله لهم من قبولهم الدّعوة وامتثالهم الأمر، فإنّه من تمام المنّة المحمود عليها، وهذا التّيسير هو الذي حُرّمه المكذّبون المستكبرون لأجل ابتدائهم بالتّكذيب والاستكبار، دون النّر والاعتبار.