الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

استئناف معتَرَض بين الخطابات المحكيّة والموجّهة، وهو موضع إبطال مزاعم أهل الجاهليّة فيما حرّموه من اللّباس والطّعام وهي زيادة تأكيد لإباحة التستر في المساجد، فابتدىء الكلام السابق بأنّ اللباس نعمة من لله. وثني بالأمر بإيجاب التستر عند كل مسجد، وثلث بانكاران يوجد تحريم اللباس وافتتاح الجملة بـ { قل } دلالة على أنّه كلام مسوق للردّ والإنكار والمحاورة. والاستفهام إنكاري قصد به التّهكّم إذ جعلهم بمنزلة أهل علم يطلب منهم البيان والإفادة نظير قولهقل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } الأنعام 148 ــــ وقوله ــــنبئوني بعلم إن كنتم صادقين } الأنعام 143 وقرينة التّهكّم إضافة الزّينة إلى اسم الله، وتعريفها بأنّها أخرجها الله لعباده، ووصفُ الرّزق بالطّيبات، وذلك يقتضي عدم التّحريم، فالاستفهام يؤول أيضاً إلى إنكار تحريمها. ولوضوح انتفاء تحريمها، وأنّه لا يقوله عاقل، وأنّ السؤال سؤال عالم لا سؤال طالب علم، أُمر السّائل بأن يجيب بنفسه سؤَالَ نفسِه، فعُقب ما هو في صورة السؤال بقوله { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا } على طريقة قولهقل لمن ما في السماوات والأرض قل لله } في سورة الأنعام 12، وقولهعم يتساءلون عن النبإ العظيم } النبأ 1، 2 فآل السؤال وجوابه إلى خبرين. وضمير { هي } عائد إلى الزينة والطّيبات بقطع النّظر عن وصْف تحريم من حرّمها، أي الزّينةُ والطّيبات من حيث هي هي حلال للذين آمنوا فمن حرّمها على أنفسهم فقد حَرَمُوا أنفسهم. واللاّم في { للذين آمنوا } لام الاختصاص وهو يدلّ على الإباحة، فالمعنى ما هي بحرام ولكنّها مباحة للذين آمنوا، وإنّما حَرَم المشركون أنفسهم من أصناف منها في الحياة الدّنيا كلّها مثل البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وما في بطونها، وحَرَم بعض المشركين أنفسهم من أشياء في أوقات من الحياة الدّنيا ممّا حرّموه على أنفسهم من اللّباس في الطّواف وفي منى، ومن أكل اللّحوم والودَك والسّمن واللّبن، فكان الفوز للمؤمنين إذ اتّبعوا أمر الله بتحليل ذلك كلّه في جميع أوقات الحياة الدّنيا. وقوله { خالصة يوم القيامة } قرأه نافع، وحده برفع خالصة على أنّه خبر ثان عن قوله { هي } أي هي لهم في الدّنيا وهي لهم خالصة يوم القيامة، وقرأه باقي العشرة بالنّصب على الحال من المبتدأ أي هي لهم الآن حال كونها خالصة في الآخرة ومعنى القراءتين واحد، وهو أنّ الزّينة والطّيّبات تكون خالصة للمؤمنين يوم القيامة. والأظهر أنّ الضّمير المستتر في { خالصة } عائد إلى الزّينة والطّيبات الحاصلة في الحياة الدّنيا بعينها، أي هي خالصة لهم في الآخرة، ولا شكّ أنّ تلك الزّينة والطّيّبات قد انقرضت في الدّنيا، فمعنى خلاصها صفاؤها، وكونه في يوم القيامة هو أنّ يوم القيامة مظهر صفائِها أي خلوصها من التّبعات المنجرّة منها، وهي تبعات تحريمها، وتبعات تناول بعضها مع الكفر بالمنعِم بها، فالمؤمنون لمّا تناولوها في الدّنيا تناولوها بإذن ربّهم، بخلاف المشركين فإنّهم يسألون عنها فيعاقبون على ما تناولوه منها في الدّنيا، لأنّهم كفروا نعمة المنعِم بها، فأشركوا به غيره كما قال تعالى فيهم

السابقالتالي
2