الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ }

أعيد فعل القول في هذه الجملة مستأنفاً غير مقترن بعاطف، ولا مستغنى عن فعل القول بواو عطف، مع كون القائل واحداً، والغرضضِ متّحداً، خروجاً عن مقتضى الظّاهر لأنّ مقتضى الظاهر في مثله هو العطف، وقد أهمل توجيهَ ترك العطف جمهورُ الحذّاق من المفسّرين الزمخشري وغيره، ولعلّه رأى ذلك أسلوباً من أساليب الحكاية، وأوّل من رأيتُه حاول توجيه ترك العطف هو الشّيخ محمّد بن عرفة التّونسي في «املاءات التّفسير» المروية عنه، فإنّه قال في قوله تعالى الآتي في هذه السّورة 140قال أغير الله أبغيكم إلهاً } بعد قولهقال إنكم قوم تجهلون } الأعراف 138 إذ جعل وجه إعادة لفظ قال هو ما بين المقالين من البَوْن، فالأوّل راجع إلى مجرد الإخبار ببطلان عبادة الأصنام في ذاته، والثاني إلى الاستدلال على بطلانه، وقد ذكر معناه الخفاجي عند الكلام على الآية الآتِيَة بعد هذه، ولم ينسبه إلى ابن عرفة فلعلّه من توارد الخواطر وقال أبو السّعود إعادة القول إمّا لإظهار الاعتناء بمضمون ما بعده، وهو قولهفيها تحيون } الأعراف 25 وإما للإيذان بكلام محذوف بين القولين كما في قوله تعالىقال فما خطبكم } الحجر 57 ــــ إثر قوله ــــقال ومن يقنط من رحمة ربه } الحجر 56 فإن الخليل خاطب الملائكة أوّلاً بغير عنوان كونهم مرسلين، ثمّ خاطبهم بعنوان كونهم مرسلين عند تبين أنّ مجيئهم ليس لمجرّد البشارة، فلذلك قال { فما خطبكم } ، وكما في قوله تعالىأرايتك هذا الذي كرمت علي } الإسراء 62 ــــ بعد قوله ــــقال أأسجد لِمَنْ خلقت طيناً } الإسراء 61 فإنّه قال قوله الثّاني بعد الإنظار المترتّب على استنظاره الذي لم يصرّح به اكتفاء بما ذكر في مواضع أخرى، هذا حاصل كلامه في مواضع، والتّوجيه الثّاني مردود إذ لا يلزم في حكاية الأقوال الإحاطة ولا الاتّصال. والذي أراه أنّ هذا ليس أسلوباً في حكاية القول يتخيّر فيه البليغ، وأنّه مساو للعطف بثمّ، وللجمع بين حرف العطف وإعادة فعل القول، كما في قوله تعالىوقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل } الأعراف 39 ــــ بعد قوله ــــقالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا } الأعراف 38، فإذا لم يكن كذلك كان توجيه إعادة فعل القول، وكونه مستأنفاً أنّه استئناف ابتدائي للاهتمام بالخبَر، إيذاناً بتغيّر الخطاب بأن يكون بين الخطابين تخالُفٌ مَّا، فالمخاطب بالأوّل آدم وزوجه والشّيطان، والمخاطب بالثّاني آدم وزوجه وأبناؤهما، فإن كان هذا الخطاب قبل حدوث الذرّية لهما كما هو ظاهر السّياق فهو خطاب لهما بإشعارهما أنّهما أبوا خلق كثير كلَّهم هذا حالهم، وهو من تغليب الموجود على من لم يوجد، وإن كان قد وقع بعدَ وجود الذرّية لهما فوجه الفصل أظهر وأجدر، والقرينةُ على أنّ إبليس غير داخل في الخطاب هو قوله { ومنها تخرجون } لأنّ الإخراج من الأرض يقتضي سبق الدّخول في باطنها، وذلك هو الدّفن بعد الموت، والشّياطين لا يُدفنون.

السابقالتالي
2