الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ }

{ فَدَلَّـٰهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ }. تفريع على جملةفوسوس لهما الشّيطان } الأعراف 20 وما عطف عليها. ومعنى { فدلاّهما } أقدمهما ففَعلا فِعلاً يطمعان به في نفع فخابَا فيه، وأصل دلَّى، تمثيل حال من يطلب شيئاً من مظنّته فلا يجده بحال من يُدَلِّي دَلوه أو رجليه في البئر ليسْتقي من مائها فلا يجد فيها ماء فيقال دَلَّى فلانٌ، يقال دلّى كما يقال أدلى. والباء للملابسة أي دلاهما ملابِساً للغُرور أي لاستيلاء الغرور عليه إذ الغرور هو اعتقاد الشيء نافعاً بحسب ظاهر حاله ولا نفع فيه عند تجربته، وعلى هذا القياس يقال دَلاّه بغرور إذا أوقعه في الطّمع فيما لا نفع فيه، كما في هذه الآية وقول أبي جُندب الهُذلي هو ابن مُرّة ولم أقف على تعريفه فإن كان إسلامياً كان قد أخذ قوله كمن يدلّى بالغرور من القرآن، وإلاّ كان مثلاً مستعملاً من قبل
أحُصّ فلا أجيرُ ومَنْ أجِرْه فليس كمَنْ يدلّى بالغرور   
وعلى هذا الاستعمال ففعل دَلّى يستعمل قاصراً، ويستعمل متعدّياً إذا جعل غيره مدَلِّيَاً، هذا ما يؤخذ من كلام أهل اللّغة في هذا اللّفظ، وفيه تفسيرات أخرى لا جدوى في ذكرها. ودلّ قوله { فدلاهما بغرور } على أنّهما فعلا ما وسوس لهما الشّيطان، فأكلا من الشّجرة، فقوله { فلما ذاقا الشجرة } ترتيب على دَلاَهما بغرور فحذفت الجملة واستُغني عنها بإيراد الاسم الظّاهر في جملة شرط لَمَّا، والتّقدير فأكلا منها، كما ورد مصرّحاً به في سورة البقرة، فلمّا ذاقاها بدت لهما سوآتهما. والذّوق إدراك طعم المأكول أو المشروب باللّسان، وهو يحصل عند ابتداء الأكل أو الشّرب، ودلت هذه الآية على أن بُدُوّ سوآتهما حصل عند أوّل إدراك طعم الشّجرة، دلالة على سرعة ترتّب الأمر المحذور عند أوّل المخالفة، فزادت هذه الآية على آية البقرة. وهذه أوّلُ وسوسة صدرت عن الشّيطان. وأوّل تضليل منه للإنسان. وقد أفادت لما توقيت بدوّ سوآتهما بوقت ذوقهما الشّجرة، لأنّ لما حرف يدل على وجود شيء عند وجود غيره، فهي لمجرّد توقيت مضمون جوابها بزمان وجود شرطها، وهذا مَعنى قولهم حرف وُجودٍ لِوُجُودٍ فاللاّم في قولهم لوجود بمعنى عند ولذلك قال بعضهم هي ظرف بمعنى حين، يريد باعتبار أصلها، وإذ قد التزموا فيها تقديم ما يدل على الوقت لا على الموقت، شابهت أدوات الشّرط فقالوا حرف وجود لوجود كما قالوا في لو حرف امتناعٍ لامْتناعٍ، وفي لَولا حرف امتناع لوجود، ولكن اللاّم في عبارة النّحاة في تفسير معنى لو ولولا، هي لام التّعليل، بخلافها في عبارتهم في لما لأنّ لما لا دلالة لها على سَبَب، ألا ترى قوله تعالى

السابقالتالي
2 3