الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }

هذا تأكيد وتقرير للأمر بالاستعاذة من الشيطان، فتتنزل جملة { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ } إلى آخرها منزلة التعليل للأمر بالاستعاذة من الشيطان إذا أحسّ بنزغ الشيطان، ولذلك افتتحت بـ { إن } التي هي لمجرد الاهتمام لا لرد تردد أو إنكار، كما افتتحت بها سابقتها في قولهإنه سميع عليم } الأعراف 200 فيكون الأمر بالاستعاذة حينئذ قد علل بعلتين أولاهما أن الاستعاذة بالله منجاة للرسول عليه الصلاة والسلام من نزغ الشيطان، والثانية أن في الاستعاذة بالله من الشيطان تذكراً الواجب مجاهدة الشيطان والتيقظِ لكيده، وأن ذلك التيقظ سنة المتقين، فالرسول عليه الصلاة والسلام مأمور بمجاهدة الشيطان لأنه متق، ولأنه يبتهج بمتابعه سيرة سلفه من المتقين كما قال تعالىأولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } الأنعام 90. وقد جاءت العلة هنا أعم من المعلل لأن التذكر أعم من الاستعاذة. ولعل الله ادخر خصوصية الاستعاذة لهذه الأمة، فكثر في القرآن الأمر بالاستعاذة من الشيطان، وكثر ذلك في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وجعل للذين قبلهم الأمر بالتذكر، كما ادخر لنا يوم الجمعة. والتقوى تقدم بيانها عند قوله تعالىهدى للمتقين } في سورة البقرة 2، والمراد بهم الرسل وصالحو أممهم، لأنه أريد جعلهم قدوة وأسوة حسنة. والمس حقيقته وضع اليد على الجسم، واستعير للإصابة أو لأدْنى الإصابة. والطائف هو الذي يمشي حول المكان ينتظر الإذن له، فهو النازل بالمكان قبل دخوله المكان، اطلق هنا على الخاطر الذي يخطر في النفس يبعث على فعل شيء نهى الله عن فعله شُبه ذلك الخاطر في مبدأ جولانه في النفس بحلول الطائف قبل أن يستقر. وكانت عادة العرب أن القادم إلى أهل البيت، العائِذَ برب البيت، المستأنسَ للقرى يستانس، فيطوف بالبيت، ويستأذن، كما ورد في قصة النابغة مع النعمان بن المنذرِ حين أنشد أبياته التي أولها
أصم أمْ يسمعُ رب القُبّهْ   
وتقدمت في أول سورة الفاتحة، ومن ذلك طواف القادمين إلى مكة بالكعبة تشبها بالوافدين على المملوك، فلذلك قُدّم الطواف على جميع المناسك وختمت بالطواف أيضاً، فلعل كلمة طائف تستعمل في معنى الملم الخفي قال الأعشى
وتُصبح عن غب السُّرَي وكأنّها ألمَّ بها من طائِف الجن أَوْلَقُ   
وقال تعالىفطاف عليها طائفٌ من ربك وهم نائمون } القلم 19. وقراءة الجمهور { طائف } ، بألف بعد الطاء وهمزة بعد الألف، وقراءة ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب طيْف بدون ألف بعد الطاء وبياء تحتية ساكنة بعد الطاء، والطيْف خيال يراك في النوم وهو شائع الذكر في الشعر. وفي كلمة إذا من قوله { إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا } مع التعبير بفعل { مَسهم } الدال على إصابة غير مكينة، إشارة إلى أن الفزع إلى الله من الشيطان، عند ابتداء إلمام الخواطر الشيطانية بالنفس، لأن تلك الخواطر إذا أمهلت لم تلبث أن تصير عزماً ثم عملاً.

السابقالتالي
2