الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } * { فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }

جملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، عاد بها الكلام إلى تقرير دليل التوحيد وإبطال الشرك من الذي سلف ذكره في قولهوإذ أخذ ربك من بني آدم من ظُهورهم ذريتهم } الأعراف 172 الآية، وليست من القول المأمور به في قولهقل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً } الأعراف 188 لأن ذلك المقول قصد منه إبطال الملازمة بين وصف الرسالة وعلْم الرسول بالغيب، وقد تم ذلك، فالمناسب أن يكون الغرض الآخر كلاماً موجهاً من الله تعالى إلى المشركين لإقامة الحجة عليهم بفساد عقولهم في إشراكهم وإشراك آبائهم. ومناسبة الانتقالَ جريان ذكر اسم الله في قولهإلاّ ما شاء الله } الأعراف 188 وضمير الخطاب في { خلقكم } للمشركين من العرب، لأنهم المقصود من هذه الحجج والتذكير، وإن كان حكم هذا الكلام يشمل جميع البشر، وقد صدر ذلك بالتذكير بنعمة خلق النوع المبتدأ بخلق أصله وهو ءادم وزوجه حواء تمهيداً للمقصود. وتعليق الفعل باسم الجمع، في مثله، في الاستعمال يقع على وجهين أحدهما أن يكون المراد الكل المجموعي، أي جملة ما يصدق عليه الضمير، أي خلق مجموع البشر من نفس واحدة فتكون النفس هي نفسَ آدم الذي تولد منه جميع البشر. وثانيهما أن يكون المراد الكل الجميعي أي خَلق كل أحد منكم من نفس واحدة، فتكون النفس هي الأب، أي أبو كل واحد من المخاطبين على نحو قوله تعالىيا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } الحجرات 13 وقولهفجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } القيامة 39. ولفظ { نفس واحدة } وحْدَه يحتمل المعنيين، لأن في كلا الخلقين امتناناً، وفي كليهما اعتباراً واتعاضاً. وقد جعل كثير من المفسرين النفسَ الواحدة آدم وبعض المحققين منهم جعلوا الأب لكل أحد، وهو المأثور عن الحسن، وقتادة، ومشى عليه الفخر، والبيضاوي وابنُ كثير، والأصم، وابن المنير، والجبائي. ووصفت النفس بواحدة على أسلوب الإدماج بين العبرة والموعظة، لأن كونها واحدة أدعى للاعتبار إذ ينسل من الواحدة أبناء كثيرون حتى ربما صارت النفس الواحدة قبيلة أو أمّة، ففي هذا الوصف تذكير بهذه الحالة العجيبة الدالة على عظم القدرة وسعة العلم حيث بثه من نفس واحدة رجالاً كثيراً ونساء، وقد تقدم القول في ذلك في طالعة سورة النساء. والذي يظهر لي أن في الكلام استخداماً في ضميري { تغشاها } وما بعده إلى قوله { فيما آتاهما } وبهذا يجمع تفسير الآية بين كلا الرأيين. ومن في قوله { من نفس واحدة } ابتدائية. وعبر في جانب الأنثى بفعل جعل، لأن المقصود جعل الأنثى زوجاً للذكر، لا الإخبارُ عن كون الله خلقها، لأن ذلك قد علم من قوله { هو الذي خلقكم من نفس واحدة }. ومن في قوله { وجعل منها } للتبعيض، والمراد من نوعها، وقوله { منها } صفة لــ { زوجها } قدمت على الموصوف للاهتمام بالامتنان بأن جعل الزوج وهو الأنثى من نوع ذكرها وهذه الحكمة مطردة في كل زوجين من الحيوان.

السابقالتالي
2 3 4