الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوۤءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

هذا ارتقاء في التبرُّؤ من معرفة الغيب ومن التصرف في العالم، وزيادةٌ من التعليم للأمة بشيء من حقيقة الرسالة والنبوة، وتمييز ما هو من خصائصها عما ليس منها. والجملة مستأنفة ابتدائية قصد من استينافها الاهتمام بمضمونها، كي تتوجه الأسماع إليها، ولذلك أعيد الأمر بالقول مع تقدمه مرتين في قولهقل إنما علمها عند ربي... قل إنما علمها عند الله } الأعراف 187 للاهتمام باستقلال المقول، وأن لا يندرج في جملة المقول المحكي قبله، وخص هذا المقول بالإخبار عن حال الرسول عليه الصلاة والسلام نحو معرفة الغيب ليقلع من عقول المشركين توهمَ ملازمة معرفة الغيب لصفة النبوة، إعلاناً للمشركين بالتزام أنه لا يَعلم الغيب، وأن ذلك ليس بطاعن في نبوته حتى يستيْئسوا من تحديه بذلك، وإعلاماً للمسلمين بالتمييز بين ما تقتضيه النبوة وما لا تقتضيه، ولذلك نفى عن نفسه معرفة أحواله المغيّبة، فضلاً على معرفة المغيبات من أحوال غيره إلاّ ما شاء الله. في «تفسير البغوي»، عن ابن عباس أن أهل مكة قالوا يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يَغلو فتشتريَ عند الغلاء، وبالأرض التي تريد أن تَجْدب فترتحل منها إلى التي قد أخصبتْ، فأنزل الله تعالى { قُل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلاّ ما شاء الله } فيكون هذا من جملة ما توركوا به مثل السؤال عن الساعة، وقد جمع رد القولين في قول. ومعنى الملْك هنا الاستطاعة والتمكن، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالىقل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً } في سورة المائدة 76، والمقصود منه، هنا ما يشمل العلم بالنفع والضر، لأن المقام لنفي معرفة الغيب، ولأن العلم بالشيء هو موجب توجه النفس إلى عَمله. وقُدم النفع في الذكر هنا على الضر لأن النفع أحب إلى الإنسان، وعُكس في آية المائدة لأن المقصود تهوين أمر معبوداتهم، وأنها لا يُخشى غضبها. وإنما عطف قوله { ولا ضَراً } مع أن المرء لا يتطلب إضرار نفسه لأن المقصود تعميم الأحوال إذ لا تعدو أحوال الإنسان عن نافع وضار، فصار ذكر هذين الضدين مثل ذكر المساء والصباح وذكر الليل والنهار والشر والخير وسيأتي مزيد بيان لهذا عند قوله تعالىولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً } في سورة الفرقان 3، وجُعل نفي أن يملك لنفسه نفعاً أو ضراً مقْدمة لنفي العلم بالغيب، لأن غاية الناس من التطلع إلى معرفة الغيب هو الإسراع إلى الخيرات المستقبلة بتهيئة أسبابها وتقريبها، وإلى التجنب لمواقع الإضرار، فنفي أن يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، يعم سائر أنواع الملك وسائر أنواع النفع والضر، ومن جملة ذلك العموم ما يكون منه في المستقبل وهو من الغيب.

السابقالتالي
2