الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }

لما كان تكذيبهم بالآيات منبعثاً عن تكذيبهم من جاء بها، وناشئاً عن ظن أن آيات الله لا يجيء بها البشر، وأن مَن يدعي أنه مرسل من الله مجنون، عقب الإخبار عن المكذبين ووعيدهم بدعوتهم للنظر في حال الرسول، وأنه ليس بمجنون كما يزعمون. واستعمال العرب همزة الاستفهام مع حروف العطف المشركة في الحكم استعمال عجيب تقدم بيانه عند قوله تعالىأفكلما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم أستكبرتم } في سورة البقرة 87. والجملة مستأنفة، وهي ابتداء كلام في محاجتهم وتنبيههم بعد الإخبار عنهم بأنهم مستدرجون ومملى لهم. والاستفهام للتعجيب من حالهم والانكار عليهم، وما في قوله { ما بصاحبهم من جنة } نافية كما يؤذن به دخول من على منفى ما، لتأكيد الاستغراق. وفعل { يتفكروا } منزل منزلة اللازم، فلا يقدر له متعلق للاستغناء عن ذلك بما دل عليه النفي في قوله { ما بصاحبهم من جنة } أي ألم يكونوا من المفكرين أهل النظر، والفعل المعلق عن العمل لا يقدر له مفعول ولا متعلق. والمقصود من تعليق الفعل هو الانتقال من علم الظان إلى تحقيق الخبر المظنون وجعله قضية مستقلة، فيصير الكلام بمنزلة خبرين خبر من جانب الظان ونحوه، وخبر من جانب المتكلم دخل في قسم الواقعات فنحو قوله تعالىلقد علمت ما هؤلاء ينطقون } الأنبياء 65 هو في قوة أن يقال لقد علمت لا ينطقون ما هؤلاء ينطقون، أي ذلك علمك وهذا علمي، وقوله هنا { أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } في قوة أو لم يتفكروا صاحبهم غير مجنون، ما بصاحبهم من جنة. فتعليق أفعال القلب ضرب من ضروب الإيجاز، وأحسب هذا هو الغرض من أسلوب التعليق لم يُنبه عليه علماء المعاني، وأن خصائص العربية لا تنحصر. و«الصاحب» حقيقته الذي يلازم غيره في حالة من سفر أو نحوه، ومنه قوله تعالىيا صاحبي السجن } يوسف 41، وسميت الزوجة صاحبة، ويطلق مجازاً على الذي له مع غيره حادث عظيم وخبر، تنزيلاً لملازمة الذكر منزلة ملازمة الذات، ومنه قول أبي معبد الخزاعي لامرأته، أم معبد، لما أخبرته بدخول النبي صلى الله عليه وسلم بيتها في طريق الهجرة ووصفت له هديه وبركتَه «هذا صاحب قريش»، وقولُ الحجاج في بعض خطبه لأهل العراق «ألَسْتُم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر واستبطنتُم الكفر» يريد أنهم الذين قاتلوه بالأهواز، فمعنى كونهم أصحابه أنه كثر اشتغاله بهم، وقول الفضل بن عبّاس اللّهَبي
كلُّ له نيّةٌ في بُغْض صاحبه بنعمة اللَّه نقليكم وتقلونا   
فوصفُ الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه صاحب الذين كذبوا بالآيات هو بمعنى الذي اشتغلوا بشأنه ولزموا الخوض في أمره، وقد تكرر ذلك في القرآن كقوله تعالىوما صاحبكم بمجنونٍ }

السابقالتالي
2